قضايا وآراء

آفاق النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب

| الدكتور قحطان السيوفي

يعبر عن النظام العالمي بأنه مدخلات تتمثل في التحالفات والمعاهدات الدولية للوصول إلى مخرجات تتمظهر بسلوك مقنن والتزام بالقواعد عبر معايير مشتركة تحدد الإطار العام.

النظام العالمي كمصلحة وكواقع هو وليد للتجربة التاريخية للفعل السياسي والعسكري والاقتصادي في العالم، والنظام العالمي هو مجموعة القوانين والقيم الكامنة التي تفسر حركة هذا النظام وسلوك القائمين وأولوياتهم واختياراتهم.

استخدم المصطلح عند وصف خطط الأمم المتحدة ونظام بريتون وودز بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

حيث ولد نظام عالمي جديد اتسم بوجود قطبين عالميين اثنين فقط أحدهما الولايات المتحدة الأميركية والآخر هو الاتحاد السوفييتي السابق، لينقسم العالم إلى معسكرين شرقي يمثله الاتحاد السوفييتي بعقيدته الاشتراكية وحلف وارسو العسكري، ومعسكر غربي تقوده الولايات المتحدة بعقيدتها الرأسمالية وحلف الناتو لتعلن بداية الحرب الباردة، واستمر التوازن الثنائي مع سباق التسلح بين القطبين وامتلاكهما القوة النووية التدميرية وساهم ذلك بعدم نشوب حرب مباشرة، ولكن ظلت الحرب الباردة معينا لا ينضب للإنفاق العسكري.

ساد نظام القطبية الثنائية العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام1945م ولغاية عام 1989 حيث انهار الاتحاد السوفييتي.

وتغيرت منظومـة المجتمـع الـدولي، سياسياً واقتصادياً، ومنح ذلك الفرصة للولايات المتحدة الأميركية أن تكون القطب الأوحد في العالم لما يملكه من قدرات عسكرية واقتصادية وصناعية، ليسخر النظام العالمي ومؤسساته الدولية ويفرض هيمنته العالمية باستخدام القوة كوسيلة لتحقيق أهدافه، بطرائق الطغيان والهيمنة الظالمة والتحكم في كل المسارات العالمية العسكرية والاقتصادية والسياسية مستغلاً غياب التوازن.

لكن القوة العسكرية لم تعد العامل المحدد كما كان ذلك في فترة الحرب الباردة، حيث بدأ المشهد الدولي يُظهر نوعاً من وهن الدولة القوية ومظاهر لقوة دول أخرى على الساحة الدولية؛ هذا النوع من الوهن الجديد مردُّه إلى الأزمات المتتالية التي تعرفها محددات هذا النظام الأحادي المحكوم باللايقين والغموض والتراجع والتآكل.

وقد عبر عن ذلك الكاتب الأميركي بول كيندي في كتابه «صعود وسقوط القوى العظمى» حين قال: «إن التمدد المفرط كان نقطة البداية لزوال إمبراطوريات عظمى لأنها عند نقطة معينة من التمدد تكون التكلفة باهظة وتتجاوز المكاسب وحتى القدرات الاقتصادية بالتآكل حتى تتقلص وتنهار قوة الإمبراطورية».

رغم الاستعراضات العسكرية الأميركية فإن الإدارة الأميركية تعرف أن وضعها الاقتصادي في حالة تراجع وتحاول أن تقيم استعراضاتها على أساس أنها قائدة العالم.

بالمقابل الاستنزاف الذي أودى بالاتحاد السوفييتي له نظيره في أميركا التي تجاوزت مديونيتها 5000 مليار دولار، لكن غرور القوة العسكرية هيأ لأميركا أنها قادرة على الاستمرار بقيادة العالم، وكأنها تنسى أن القوة العسكرية لم تمنع الاتحاد السوفييتي سابقاً من دفع ثمن أخطائه المماثلة نسبياً لأخطاء أميركا.

النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب الذي هو في طور التكوّن، يتضمن: إحلال مفهوم المصالح والاعتماد المتبادل مكان مفهوم الصراع في العلاقات الدولية وأن الصين وروسيا واثقتان بأن ما تقوم به هو الصحيح وأنها بنت لنفسها طريقاً يقودها إلى النظام العالمي الجديد، من دون أي رغبة في الهيمنة على الآخر.

الصين دولة تعمل بهدوء، وتؤسس لقاعدة مفادها أنها دولة لا تتدخل في الشأن الاقتصادي والسياسي للدول الأخرى، وأن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة إخفاق الآخر أو حمله على الفشل.

آفاق النظام العالمي الجديد يمكن تلخيصها على النحو التالي: على الصعيد الدولي سيتجسد النظام العالمي الجديد كنظام متعدد الأقطاب، وإن كان هذا لا يعني عدم حدوث تحالفات بين الأقطاب لكنها ستكون تحالفات مؤقتة.

على الصعيد العسكري النظام العالمي الجديد هو نظام الحد الأدنى من الفعل العسكري، وذلك بانتهاجه مبدأ إطفاء المناطق المشتعلة.

وهذا يعني أن الأزمات السياسية – العسكرية ستكون مهيأة للحل خلال فترة قريبة، وبهذا تتهيأ الظروف الإقليمية لمجموعة حلول جذرية.

على الصعيد السياسي: النظام العالمي الجديد يميل إلى إرساء العقلانية السياسية كواقع نهائي في الممارسة السياسية العالمية، إضافة إلى أن السياسة العالمية ستميل نحو المزيد من المأسسة وضبط السلوك السياسي والعسكري العالمي.

والتوجه سيكون نحو أنظمة سياسية تعتمد الضبط أكثر مما تعتمد الإكراه، وبالتوجه الديمقراطي.

على الصعيد الجيو سياسي يميل النظام العالمي الجديد إلى التعامل الكتلي، سيغدو في النظام العالمي الجديد استقطاب كتل لكتل وأن هذا النظام هو نظام ضبط دولي أكثر فاعلية مما عهدناه من أساليب الضبط في النظام المنصرم، إنه زمن عالمية السياسة.

الآفاق المستقبلية تشير إلى عالم سياسي – اقتصادي جديد، قد تتغير فيه العلاقات الدولية وقد تختلف فيه مركزية القرارات أيضاً، لكن يبقى اقتصاد السوق محلياً وعالمياً يحكم اقتصاديات دوله، وفق مبدأ «الدول – الكتل» في المنظمات السياسية.

في هذا السياق قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن هناك نظاماً عالمياً جديداً قيد التشكل ويتم ترسيم حدوده، وأضاف لافروف، في كلمة روسيا أمام الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، إنه «إذا لم ترد واشنطن وحلفاؤها التفاوض معنا بشأن نظام عالمي أكثر عدالة فسيكون علينا خوض ذلك بأنفسنا».

وتابع إن هناك منظمات مثل بريكس تحافظ على أمنها وتسعى لتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، على حين تبذل الولايات المتحدة وحلفاؤها كل ما في وسعها للحيلولة من دون تشكل نظام دولي عادل، آفاق المشهد السياسي والعسكري والاقتصادي الدولي يشير إلى أن طبيعة العلاقات الدولية قد تغيَّرت بالكامل، والخاسر هو الذي قد يكتفي بقراءة الخرائط التقليدية للجيوبوليتيك والعالم يقف على بوادر تغيير في النظام العالمي نابعة من تراجع تدريجي للقطب قادرة على منافسة ومزاحمة القطب الأوحد مثل الصين والهند مع قوى إقليمية تستطيع في اصطفاتها أن تخلق توازنات دولية جديدة تسهم في رسم آفاق النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب.

وزير وسفير سوري سابق

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن