من دفتر الوطن

نعمة النسيان

| عصام داري

في الليلة الماضية خطرت لي فكرة مذهلة كنت سأترجمها في زاويتي في «الوطن» اليوم، وقررت أن أكتبها هذا اليوم، لكن في الصباح تبخرت الفكرة وضاعت معها واحدة من أجمل الزوايا التي أكتبها في هذا الحيز الممنوح لي في صحيفة «الوطن».

ليست هذه المرة الأولى التي يحدث معي هذا الموقف، لكن الشيء المثير أنني لست الوحيد الذي يتعرض لذلك، فقد أبلغني الكثير من الأصدقاء الصحفيين والكتاب أنهم يتعرضون إلى هذا الموقف مراراً وتكراراً.

ترى، هل يعتبر هذا الأمر نوعاً من النسيان؟ وهل علينا أن نراجع الأطباء لمعالجة الخلل عندنا؟

ليس مهماً ما يسمى هذا الأمر في علم النفس وماذا يطلق عليه العلماء والراسخون في العلم، المهم أنه موجود في حياتنا بنسب مختلفة تصل أحياناً إلى مرحلة فقدان الذاكرة نهائياً، بشكل دائم أو مؤقت.

النسيان مفيد لبني البشر، ولولا هذا النسيان لكانت البشرية غارقة اليوم بالأحزان والكآبة والعويل، وربما نعيش جميعاً حالة «نعمة النسيان».

ونعمة النسيان هذه تحولت إلى أغنية كتبها عمر بطيشة ولحنها فاروق سلامة وغنتها ميادة الحناوي، وهذا يقودنا إلى الحديث عن النسيان في الأغنية العربية.

النسيان في الأغنية هو نوع من العتاب بين المحبين، وخاصة عندما يخلف المحبوب موعده فيقول محمد عبد الوهاب: يا ناسية وعدي، إذ يبدو أنها لم تأت للموعد المحدد، بينما يعتب فريد الأطرش على حبيبته ويسألها: بقى عايز تنساني وتزود حرماني، أما نجاة فتقول بحسرة: نسي يا خسارة نسي.

في حالة ثانية هناك حكاية عند أم كلثوم وفيروز لها علاقة بالنسيان، فقد تسبب الحب لهما في فقدان القدرة على النوم، فتغني أم كلثوم: نسيت النوم وأحلامه، أما فيروز فتغني: حبيتك تنسيت النوم، وكأن السهر وقلة النوم من سمات الحب الأساسية.

أما المطرب الحزين هاني شاكر فيبث شكواه لمحبوبته ويقول لها: نسيانك صعب أكيد، في حين يريد ملحم بركات على العكس تماماً فهو يقول «كرمال النسيان لا تقلي نرجع نتلاقى».

الآن، وبعيداً عن الأغنية العربية والنسيان، هل النسيان نعمة أم نقمة؟ سؤال جوهري قد نجد الجواب عنه عند علماء النفس الذين يصرفون جل أوقاتهم في البحث والدراسة والاستقصاء للوصول إلى إجابات مقنعة على كل الأسئلة المطروحة.

وباختصار شديد وجدت إجابة واضحة وصريحة على هذا الأمر، فالنسيان يريح العقل من الإرهاق نتيجة التفكير الزائد، كما أنه يتيح لنا التحرر من التجارب والعواطف المؤلمة التي لا نفضل تذكرها.

لا نريد الاستفاضة في الإجابة فنحن لسنا من أصحاب الدراسات المعمقة، كل ما نريد الوصول إليه هي ضرورة الحصول على شيء من النسيان كي نحرر أرواحنا ولو مؤقتاً ولفترة قصيرة من جنون العصر ومن مشاهد الموت المتنقل هنا وهناك ومن الإجرام الذي تصنعه دول وحكومات وجيوش جرارة.

أنا شخصياً أتمنى أن أصاب بفقدان الذاكرة ليريحني من هموم هذه الدنيا التي تعصف بالإنسان وقيمه النبيلة والسامية، فهي التي تمنحني نعمة النسيان إذا عزَّ عليَّ فقدان الذاكرة الكلي؟.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن