بعد سبعة أيام من الهدنة التي جرى الإعلان عنها في غزة بوساطة مصرية قطرية كان الرمي الأميركي لثقله واضحاً فيها عبر حضور مدير وكالة الاستخبارات الأميركية وليام بيرنز للدوحة ولقائه بالعديد من نظرائه الإقليميين، استؤنفت جولة الحرب الثانية على غزة بعد عقد «كابينيت الحرب» الإسرائيلي جلسة كان من الواضح أنها سوف تذهب إلى ما ذهبت إليه حتى أن دور وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، لتلك الجلسة، كان أشبه بدور «الحكم» الذي يحمل «الصافرة» التي تتحكم ببدء «المباراة» ونهايتها ناهيك عن تحكمها بالإعلان عن «المخالفات» التي يرتكبها اللاعبون فتقتضي تصويباً وفقاً لما شرعته قوانين اللعبة.
لم تُضع «حكومة الحرب» الإسرائيلية دقيقة واحدة من الزمن الذي «يبيح» لها استخدام آلة القتل والتدمير سعياً وراء تحقيق مرام وأهداف لم تستطع تحقيقها خلال 46 يوماً سبقت الإعلان عن الهدنة الأولى، فمع صباح يوم الجمعة الماضي كانت تلك الآلة قد انطلقت بزخم تريد من خلاله القول أن هدنة الأيام السبعة لم تؤد إلى فتور العزائم أو سبات الهمم، والجعاب لا تزال ممتلئة بما يكفي لتحويل غزة إلى بيئة جغرافية غير صالحة للسكن، وتلك الجعاب، لا تزال مصرة على الفعل حتى ولو أدى الأمر إلى دفع سكان غزة لطرق أبواب معبر رفح بالقوة أو لتكسيرها بأجسادهم بحثا عن مخارج تحفظ لذاتهم الجماعية الديمومة والاستمرار، الأمر الذي فيما لو حصل، فلسوف يشكل سابقة هي الأقسى مما شهده العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولا تعادلها على الإطلاق مجازر راوندا أو الأحداث التي شهدتها يوغسلافيا السابقة منتصف التسعينات من القرن الماضي وصولاً إلى العام الأخير منها الذي شهد تدخل «ناتو» بوحشية لم يكن لها من مبرر سوى إظهار القوة الأميركية لـ«نشوة» التفرد بالهيمنة التي كانت قد استحصلت عليها تماماً قبل نحو ثماني سنوات.
مع بدء «الجولة الثانية» من الحرب، وبعد مضي أربعة أيام على بدئها، تبدو المرامي أكثر تكشفاً، فالمطلوب هو إنهاء «حالة» غزة وتدمير «البيئة» التي ترعرع فيها من يفكر، أو يتجرأ، على القيام بما قامت به حركة حماس فجر السابع من تشرين الأول المنصرم، حتى لا تستنسخ تلك البيئة فعلاً مماثلاً أو هو يشابهه من حيث النتيجة، والفعل، كما يبدو، ضرورياً لكي تستطيع إسرائيل نسيان الآلام التي خلفها ذاك الفجر آنف الذكر، والراجح هنا أن سيناريو الحرب هذه سوف يستمر بضراوة أكبر مما سبق مع التركيز على مدينة خان يونس بجنوب قطاع غزة الذي بات «الشاباك» يرى فيها مركز القيادة والتحكم الجديد في حماس، أو هو البديل الجاهز لنظيره الذي كان قائماً في مدينة غزة في شمال القطاع والذي جرى تدميره وفقاً لرواية «الشاباك» نفسها، لكن الراجح أيضاً أن هذا السيناريو محدود بمدة زمنية لا تتعدى الأسابيع الأربعة التي قيل أن بلينكن منحها لـ«حكومة الحرب» الإسرائيلية عندما صادق على بدء الجولة الثانية رافعاً «صفارته» إيذاناً بها خلال حضوره لاجتماع «الكابينت» يوم الخميس الماضي، وما ركز بلينكن عليه، وفق تسريبات غربية، في تلك الجلسة هو وجوب التعاطي «الاحترافي» مع التركيبة السكانية التي تمثل عنصراً عملياتياً بالغ الأهمية في الحرب، ومن الواجب التعامل معها بحساسية فائقة كيلا تفضي العمليات الموجهة ضدها إلى تعطيل مسار القتال.
مع بدء الجولة الثانية من القتال تجد «حكومة الحرب» الإسرائيلية نفسها الآن أمام معضلة كبيرة قد يصح توصيفها بأنها من النوع «الاستراتيجي»، فهي من جهة ترى أن من المستحيل عليها التراجع عن الهدف الأهم الذي أطلقته عشية الحرب وهو «القضاء على حركة حماس» نهائياً، ذاك لأن التراجع سيعني بقاء «الأمن الإسرائيلي» في مرمى الخطر أقله أمام جمهورها، ومن جهة ثانية ستكون غزة في نهاية الحرب، بعيداً عن المشكلة الإنسانية، التي هي ليست من بين هموم حكومة الحرب الإسرائيلية بالتأكيد، ملاذاً لمزيد من الفوضى، بل و«التطرف»، ومن الصعب على تلك الحالة أن تلبي متطلبات ذلك «الأمن» حتى على المدى القصير.
ما كشفته المفاوضات التي لم تنقطع خلال أيام الهدنة السبعة هو لا واقعية الوسطاء الذين ذهبت طروحاتهم لحدود طرح صفقة كبرى قوامها «الكل مقابل الكل»، بمعنى تحرير كامل الأسرى من الطرفين، واللاواقعية لا تتأتى هنا من طبيعة الطرح الذي يمثل حلاً واقعياً وعادلاً في آن واحد، وإنما تتأتى من أن حالة احتياج الثالوث، الشارع الإسرائيلي و«كابينيت الحرب»، وبنيامين نتنياهو، لا تسمح بعقد صفقة كهذه الأمر الذي يفسر انطلاق آلة الحرب الإسرائيلية بكل هذا العتي والوحشية في محاولة منها لاستعادة الصورة التي كانت عليها يوم 6 تشرين أول الماضي، وما سيزيد من آلام الفلسطينيين وأوجاعهم هو أن تلك الصورة من المستحيل استعادتها، بل ولا يمكن تلميعها أياً تكن الوسائل المستخدمة فـ«هيبة الردع» تظل أداة فاعلة طالما لم يمسسها «الخدش» لكن الأخير إن فعل باتت الأولى «سلعة» بلا قيمة أو هي غير رائجة في التداول.
كاتب سوري