يعتبر الأدب الشعبي- ولاسيما حكاياته بأسلوبها الشيق الذي يسحر الكبار والصغار- مصدراً ثرياً بالكثير من القصص، التي يمكن أن يستلهمها الكتاب المحدثون؛ سواء بنقلها كما هي، وإخضاعها لتقنيات فن السرد الحديث؛ أم باقتباس شذرات من روحها النابضة بالحياة، لابتكار حكاية أو قصة أو رواية حديثة، ترتكز على عناصر الأسلوب الحكائي الشعبي، الذي يختزن تجارب الماضي، وخلاصة إبداعه العريق.
وإلى النوع الثاني، تنتمي هذه القصة من أدب الأطفال، لمؤلفها الكاتب الصديق «أمين الساطي»، مع أنني أستشف من أسماء شخصياتها، وبعض وقائعها، أنها مقتبسة من الأدب الشعبي العالمي، والأوروبي على وجه التحديد، مع بعض التدخلات واللمسات الفنية، وبعض الإضافات العلمية الحديثة.
أحداث القصة
وتتلخص أحداث هذه القصة، بأن الطفل «يودا» وهو ابن لأحد الملوك، قد لاحظ -في عيد ميلاده- أن ثمة مجسّماً أو تمثالاً صغيراً جميلاً، يستقر فوق كعكة العيد، فيعجب به، ويحتصنه -طوال الليل- وهو يفكر بالتعرف على ماهية هذا التمثال، ولم يلبث حتى أخبره أستاذه- في صباح اليوم التالي- أن هذا التمثال هو لحيوان بحري ضخم يسمى الحوت الزهري، الذي يعيش في البحر، ويزوده بالمعلومات المتعلقة بحياة هذا الحوت، وأساليب عيشه وتكاثره، وأن له أوجه شبه عديدة مع عالم البشر، ما يلهب خيال الطفل، ويدفعه للقيام بمغامرة للتعرف على هذا الحوت حيث يعيش، فيتسلل من القصر متجهاً صوب البحر.
وفي طريقه إلى هدفه يقابل عدداً من «الشخصيات» المساعدة- التي يكثر حضورها في الأساطير والحكايات الشعبية- كالحصان، والدجاجة، وأحد الصيادين، الذين سيتلقى من كل منهم حكمة نافعة، أو سلوكاً جميلاً، أو مساعدة مفيدة في الوصول إلى هدفه، بالإضافة إلى الإلمام بأبرز خصائص هؤلاء المساعدين.
الطفل والقبطان
وبعد وصول الطفل «يودا» أخيراً إلى السفينة، التي يقودها قبطان شرس، وارتحاله معها إلى عمق البحر، حيث اعتاد القبطان وقراصنته صيد الأسماك، والحوت الزهري في مقدمتها؛ يرى «يودا» الحوت الزهري المرتقب، ، ويراقبه وهو يسبح مع ابنه الحوت الصغير ويلاعبه، في حين كانت الأم على مقربة منهما تسبح هي الأخرى، وتراقبهما بمحبة واهتمام. وحين ألقى البحارة زوارق الصيد، وأخذوا بمناوشة الحوت الزهري، راح «يودا» يراقب المعركة الناشبة بين الفريقين، ما يثير إعجابه بالحوت الزهري ودفاعه عن نفسه وولده وزوجته من جهة، وغضبه على الصيادين الأوغاد من جهة ثانية، فيعمد إلى إفشال خطتهم لصيد الحوت، ونجاته منهم.
وكما تكللت رحلة قدومه إلى البحر بالنجاح، فقد نجحت رحلة عودته إلى قصره الملكي أيضاً.
ويمكننا الآن أن نرى بوضوح مدى انتماء هذه القصة إلى أسلوب الحكايات الشعبية، مع مقدرة الكاتب المميزة، على زرع كثير من المعلومات العلمية، التي تلبي حاجة الطفولة إلى المعرفة، والإشارة إلى عدد من الحكم الأخلاقية، في سياق الحكاية، مثلما وجدنا الحصان يتحدث إلى «يودا» منتقداً نظرة الإنسان إلى الحيوانات، وأنانيتهم الرديئة، فيقول: «نحن مثلكم مخلوقات الله، لكنكم أنتم البشر لا تعرفون سوى مصلحتكم، وتجعلون جميع المخلوقات خدماً لكم..!!».
ومثل هذا كثير مما يرد بصورة غير مباشرة، كما رأينا الدجاجة وهي تصرخ بوجه الحصان: «انتبه أيها الأحمق حتى لا تدوس على أولادي الصغار»!! وكذلك حين يلحظ «يودا» خسة الصياد وطمعه غير المبرر بالمال مقابل خدمته، أو حين يلمس غلظة القبطان وبحارته القراصنة الأشرار!!
أسلوب القص
حقاً.. لقد امتازت هذه القصة الطفولية بأسلوب سردي أدبي موفق، في كل الحكايات الجزئية الخاصة بمختلف شخصياتها الإنسانية والحيوانية، إلى عنصر الخيال الملائم لعالم الطفولة، حيث وجدنا الحيوانات تتكلم بلغة البشر، وتنطق بالنصائح والحكم في مواضعها، وهي على أهبة الاستعداد دائماً للتعاون مع بني الإنسان، بكل كرم وأريحية.
وجملة القول عن هذه القصة أو الحكاية الموجهة للأطفال أنها تتمتع بكثير من السمات المرغوبة في هذا النوع من الأدب، من حيث لغتها السليمة السهلة الواضحة، وجملها القصيرة المكثفة دون إخلال بالصياغة الفصيحة، والخيال الحيوي دون مبالغة، فضلاً عن المعلومات العلمية الدقيقة الشائقة، عما يتعلق بعالم الحيوان، إلى جانب القيم الأخلاقية الرفيعة، التي ينبغي للإنسان أن يتحلى بها، ويحافظ عليها.
فعسى أن تكون هذه القصة نموذجاً بين النماذج المضيئة، التي يقتدي بها كل طامح من الأدباء إلى خوض غمار أدب الأطفال ذي الخصوصية الفائقة.