قضايا وآراء

مذبحة غزة ولعنة الانتظار.. أما كفانا بيعاً للوهم؟

| فراس عزيز ديب

مهما خذلتكَ وجهة نظر الآخرين بقناعاتك، إيَّاكَ أن تتحولَ إلى بائعٍ للوهم لأن بائعَ الوهم قد يتحول بينَ ليلةٍ وضحاها إلى شريكٍ بالدمارِ والخراب من دون أن يدري، هذا الأمر قد يدخل في أصغرِ تفاصيلنا اليومية وقد يدخل في المعارك المفصلية كما يجري اليوم في قطاع غزة النازف للدم والآلام، فما الجديد؟

منذُ بدايةِ أحداث طوفان الأقصى بدأت الدول الداعمة للكيان بشكلٍ مباشر أو غيرِ مباشر الترويجَ لفكرةِ المهلة الزمنية المعطاة للكيان لإنجاز وتحقيق أهدافهِ في القطاع وترك الكلام للتحليلات التي تتعاطى مع ما أُنجز إن كان يدخل في إطار النصر أو الهزيمة، الكلام عن المهل هذهِ المرة جاءَ من الأصيل مباشرةً فمساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط هنري ووستير قالَ «إن الحرب في غزة لا يمكنها الاستمرار إلى الأبد لكن وكما طرح سابقاً الرئيس جو بايدن فإن الإطار الزمني قد ينتهي بنهاية العام الحالي»، وقد يكون هذا التصريح لا معنى له من مسؤول هامشي في الخارجية الأميركية، لكنهُ في الوقت ذاته يحمل تساؤلاً منطقياً: ماذا سيحدث حتى نهايةِ العام ليكون انتهاء حمام الدم مرتبطاً بقدومهِ؟

هناك من يربط تلكَ المهلة بامتعاضٍ أميركي من السلوك الوحشي لحكومة الكيان الصهيوني، هل هذه نكتة حقاً؟ لنتحدث بالوقائع، دعونا من التصريحات التي قلنا في أكثر من مرة إنها فقط لإظهارِ وجهٍ آخر إنساني لهذه الدولة أو تلك، أين استقرأتُم في السلوكِ الأميركي حتى الآن تململاً من الجرائمِ الإسرائيلية؟ هل بالجسر الجوي المفتوح لنقل السلاح والعتاد بما فيها الأسلحة المحرمة دولياً أم إنه بالدعمِ غير المتناهي في أروقةِ المنظمات الدولية وكان آخرها الفيتو الأميركي ضد مشروع قرار بوقف إطلاق النار في غزة قبل أمس؟ هل يظن البعض أن وصولَ عدد الشهداء حتى نهاية العام لعشرين ألفاً والوحدات السكنية التي لم تعد صالحة للسكن ما نسبته 75 بالمئة سيقلق الولايات المتحدة ويدفعها للضغط لإيقاف الحرب؟

أما الأفكار الأكثر سذاجة فهي تلك التي تربط هذه المهلة بدخول الولايات المتحدة المعترك الانتخابي الرئاسي وسعي الإدارة الديمقراطية لتطويق الأزمات قبل ذلك خوفاً من تأثيرها على أصوات الناخبين، هذا الكلام هو أشبه باللازمة الموسيقية التي اعتدنا سماعها، انتظار الانتخابات في هذا الشرق البائس هي ماركة مسجلة لنا لكننا ببساطة لا ننتظر انتخاباتنا بل انتخابات الآخرين، وربما من المفيد التذكير بأنه من المبكرِ جداً الحديث عن تأثيرِ الأحداث في هذا الشرق على الانتخابات الأميركية لكن سنسير معكم كما تودون وعلى فرض أن تأثيراً ما قد حصل من بديل إدارة جو بايدن التي قدمت كل ما يمكن تقديمه من دعم للكيان الصهيوني؟ الأكثر حظاً بين الجمهوريين هو الرئيس السابق دونالد ترامب الذي لم ينتقد إسرائيل على جرائمها بل انتقدها لعدم استعدادها لما جرى في السابع من تشرين الأول واعداً بالدعم الكامل لتفادي كارثة كهذه في المستقبل، أما منافسه الجمهوري رون ديسانتيس حاكم ولاية فلوريدا، فهو لم يعترف بحق إسرائيل بالرد على الهجمات فحسب لكنهُ تحدث عن «الرد الساحق» الذي يجب دعم إسرائيل لتحقيقه، هذا يعني أن الانتخابات التي تنتظرون منها تبديل شيءٍ ما، هي أساساً سوق عكاظ يهدف من خلالها المرشحون إلى تقديم كامل الدعم للكيان بل هي قد تبدو فرصة لإدارة بايدن نفسها لتدعيم وضعها الانتخابي وهناك بين مثقفينا من ينتظرها أن تكون بداية لنهاية الحرب!

للأسف وبعدَ شهرينِ من الحرب مازالَ هناك من يفرق بين الولايات المتحدة وبين الكيان الصهيوني، على هذا الأساس لا يبدو التعويل على الانتخابات الأميركية الآن ولا غداً يجدي نفعاً، كفانا تكراراً لعبارات جاهزة ومنمقة، وتعالوا نواجه الحقائق كما هي فالولايات المتحدة نجحت، مهما حاولنا تجميل الصورة، بمحاصرة أي احتمالية لاتساع رقعة الحرب، وهذا ما سعت إليه منذ اليوم الأول، بمعنى أدق هذا ما سعت إليه منذ اليوم الأول لقرارها بضرب استقرار سورية في العام 2011 وإدخالها في هذا المعترك بين الحصار والحرب عبر الجماعات التكفيرية واستنزافها إلى أبعدِ حد، لأنها كانت تدرك أن هناك فرقاً كبيراً بين من يقرن القول بالفعل وبين الطبول الفارغة التي تمتهن بيع الكلام والشعارات لا أكثر.

الحال الأميركي ليس وحيداً ولا حتى استثنائياً لكننا نقوم بالتركيز عليهِ فقط لاقتناعنا بأن الدور الأميركي هو الدور الجوهري، لكن بنظرةٍ شاملة لباقي الدول التي قد تكون «فاعلة» فوضعها لا يفرق كثيراً، فمثلاً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طرحَ فكرة إغلاق معبر رفح حتى يتم استبدال أو إنهاء حكم حماس في غزة، على أن تمر المساعدات الإنسانية عبر معبر كرم أبو سالم الذي يُشرف عليه الكيان الصهيوني، لكن كما العادة فإن تصريحات ماكرون لم تستدع حتى رداً من الجانب الإسرائيلي، وهي نتيجة منطقية لبلدٍ سلَّم كل أوراقه القوية التي كان يمتلكها للحليف الأميركي.

أما حال الدول العربية فهو بالقدر الذي يبدو مأساوياً إلا أن الاستسلام لهذهِ المأساوية يبدو أكثر رعباً مما يجري في غزة، تعالوا لنعود بالذاكرةِ مثلاً إلى العام 2008 يومها كانت غزة محاصرة والجانب التركي وغيره من الدول بمرجعياتٍ مذهبية، كانوا يسعون لدورٍ أوسع في السيطرة على الملف الفلسطيني إن كان عبر استعراضاتٍ هنا أو تصريحاتٍ هناك، جميعها كانت مجردَ أصوات لا أكثر، ولأن الجوع كافر فإن بعض الفلسطينيين هددوا باقتحام معبر رفح والدخول إلى الأراضي المصرية للحصول على ما يسد الرمق، يومها قال وزير الخارجية المصري محمود أبو الغيط عبارته الأقذر: «سيتم كسر أرجل كل من يجرؤ على العبور»، واليوم هذا الشخص هو الأمين العام للجامعة العربية التي من المفترض أنها مؤتمنة على القضية الفلسطينية والفلسطينيين ومنع تهجيرهم من جديد، هذه المقاربة تكفي وحدها أن تجعلنا نفهم ما يحصل، بالتأكيد نحن هنا لا نتقصد من هذهِ المقاربة شخصنة هذا النزاع لكننا نتحدث ببساطة عن نهجٍ مستمر، والمثال هو فرصة للحديث عن الهدف الأكثر تعقيداً لهذه الحرب وهو تهجير الفلسطينيين، اليوم هناك من يقول إن مشروع التهجير لن يتم ولا يمكن له أن يتم لكن ما الضمانات؟ طيب وبصورةٍ أكثر وضوحاً: ماذا لو تم التهجير؟

ألا يريد البعض أن ينظر للأمر بصورةٍ مختلفة بأن استمرار الحرب لم يعد اليوم لاحتلال القطاع الذي أنجز الكيان الكثير منه ولا لتصفيةِ المقاومة التي وللأسف من الواضح أنها فقدت الكثير من قوتها الضاربة تحديداً بالصواريخ بعيدة المدى، لكن ما يجري يحمل بصماتٍ واضحة نتمنى على باقي الدول المعنية به أن تلتفتَ إليه أكثر، الدفع بالفلسطينيين نحو لجوءٍ جديد، دعكم من الشعارات، أنت أمام مئات الآلاف من الأشخاص قد يضطرون فعلياً لاقتحام المعبر هل جهزت نفسكَ لليوم التالي أم إنك ستكتفي بتكسيرِ أقدامهم؟

من هنا حتى يأتي الجواب هي رسالة لكل من امتهن بيع الوهم، قبل عام 1967 وقعنا بفخ التهويل الإعلامي الذي أظهرَنا منتصرين، لنخسر باقي فلسطين وسيناء والجولان، اليوم هناك من يقع بالفخ ذاته لأنه حتى الآن لم يستطع التمييز بين اللعب على الروح المعنوية وبين الواقعية، لا تنتظروا نهاية العام ولا الانتخابات لحدوث إعجازٍ ما، وحده الميدان القادر أن يبدلَ ويغير وإن تعذر الميدان، فإن التفكيرَ بمن سيعيش أفضل من التفكير بمن سوف يموت!

كاتب سوري مقيم في باريس

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن