فشل النائب الجمهوري مات جايتز في تمرير مشروع قراره الذي تقدم به إلى «مجلس النواب» الأميركي في الثامن من شهر آذار المنصرم، وكان مشروع القرار يقضي بسحب القوات الأميركية غير الشرعية من الأراضي السورية خلال مدة لا تزيد على 15 يوماً، لكن نتيجة التصويت التي جاءت بواقع 103 أصوات مؤيدة و321 صوتاً معارضاً قادت إلى ترحيل المشروع إلى الحفظ في أرشيف المجلس، وما تشير إليه النتيجة السابقة هو أن «المعارضين» كانوا بنسبة ثلاثة أضعاف «المؤيدين» في مشهد يريد القول: إن الانسحاب الآن أمر غير وارد لكنه، أي المشهد، يقول أيضاً إن كتلة «المؤيدين» وازنة، أو هي ليست بالقليلة، ولربما استطاعت المستجدات والمتغيرات «دحرجة» كرتها لتتخذ من مسار كرة الثلج، التي يتنامى حجمها إبان رحلتها من أعلى المنحدر إلى أسفل قاعه، دليلاً لها.
بعد مرور أكثر من تسعة أشهر كرر النائب الجمهوري راند بول المحاولة لكن، هذه المرة، من خلال «مجلس الشيوخ» الذي يمثل السلطة التشريعية الأعلى بالبلاد ومصادقته على القرارات أمر لا بديل عنه لتمريرها إلا في حالات نادرة يمنحها الدستور لرئيس البلاد، وهي في جلها ذات علاقة بمسألتي «الأمن القومي» و«الحرب»، واللافت هنا أن بعض الرؤساء الأميركيين كانوا قد اعتمدوا قرارات ذات صلة بإسرائيل من دون مصادقة «مجلس الشيوخ»، الأمر الذي يؤكد أن غرف صناعة القرار بواشنطن تعتبر إسرائيل وكل ما يخصها مسألة «أمن قومي» لا لبس فيها تماماً كما تمثل الأحداث التي قد تتعرض لها الولايات الأميركية الخمسون.
جاءت نتيجة تصويت «مجلس الشيوخ»، يوم الأربعاء الماضي، على مشروع راند بول صارخة بدرجة أكبر من نظيرتها التي شهدها «مجلس النواب» شهر آذار الماضي سابقة الذكر، فالمؤيدين وقفوا عند حاجز 13 عضواً في حين بلغ عدد المعارضين 84 عضواً والثلاثة الباقين كانوا «غياباً»، والنسبة هنا تشير إلى أن حجم «المعارضين» هو بحجم سبعة أضعاف «المؤيدين» تقريباً، ما يشير إلى أن مسار «كرة الثلج» سلك طريقاً كان عكسياً، الأمر الذي يمكن تفسيره بالتأكيد عبر التصعيد الذي تشهده المنطقة انطلاقاً من الحرب في غزة التي دخلت شهرها الثالث قبل أيام، والتي كانت إحدى نتائجها تزايد الحضور العسكري الأميركي في المنطقة بدرجة لا سابقة لها منذ نشوء الصراع المتولد عن «انغماس» الكيان الصهيوني بين أحشائها شهر أيار من العام 1948.
اللافت هنا هو أن «الجمهوريين» الذين كانوا يميلون، في غالبيتهم، نحو استصدار قرار يقضي بتنفيذ انسحاب تام للقوات الأميركية من سورية التي تقول تقارير إن عديدها ما بين 900 – 1000 جندي فيما تشير أخرى إلى أن العدد الحقيقي يفوق هذه الأخيرة، كانت مواقفهم هذه المرة بعيدة عن ذلك الميل، الأمر الذي يمكن لحظه بوضوح عبر تصريحات زعيم الجمهوريين بـ«مجلس الشيوخ» ميتش ماكونيل، الذي أصدر بياناً على هامش المشروع جاء فيه: إن «تمرير هذا القانون (يقصد مشروع قرار راند بول) سيكون بمثابة هدية إلى إيران»، وأضاف في بيانه آنف الذكر أن «إخراج القوات الأميركية من الشرق الأوسط هو بالضبط ما يرغبون في رؤيته»، واصفاً المشروع بأنه «قصير النظر»، وأن من شأنه أن «يدمر مصداقية أميركا في المنطقة» ناهيك عن أنه سوف «يشجع على فتح جبهة شمالية في الحرب الإقليمية الدائرة ضد إسرائيل»، مثل هذا التوجه الجديد عند الجمهوريين الذي تمثل بتصويت أغلبية أعضاء الحزب ضد مشروع القرار لم يكن موجوداً، بهذه القوة، في السابق، والشاهد هو أن الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب كان قد اتخذ قراراً بسحب قواته من سورية في أعقاب إعلان «الانتصار» على «تنظيم الدولة الإسلامية» في سورية العام 2019، قبيل أن يستطيع صقور «البنتاغون» ثنيه عن وضع ذلك القرار قيد التنفيذ، لكن القرار كان يعتد بأغلبية «جمهورية» مؤيدة له.
هنا يمكن الجزم بأن تغير المزاج العام الأميركي تجاه التواجد العسكري في سورية ليس ناجماً عن تولد رؤية جديدة مفادها أن ذلك الوجود هو من النوع الخادم للمصالح الأميركية في المنطقة، لكنه جاء في سياق التحولات التي أحدثتها عملية «طوفان الأقصى» التي أعلنت عنها حركة حماس فجر السابع من تشرين أول المنصرم، حيث الفعل قاد من حيث النتيجة إلى خلق رؤية لدى مراكز صنع القرار الأميركي مفادها أن «كرة الطوفان» إذا ما تمددت فإنها قد تؤدي إلى انهيار ثالث لـ«الهيكل»، الأمر الذي يتأكد من خلال إشارة ماكونيل الأخيرة التي تضمنها بيانه، والتي عبر من خلالها عن مخاوفه من «فتح جبهة شمالية» في الحرب الدائرة راهناً، وعليه يمكن الجزم بأن هذا التغير، في المزاج، مرحلي ومؤقت وهو سوف يقود إلى تغير آخر يتناقض مع الأول بزوال المسببات التي قادت لهذا الأخير.
قد يكون الأمر المقلق فعلاً، بعيداً عن السجال الدائر داخلياً حول الوجود الأميركي في سورية والذي من المؤكد أن صفحته لن تطوى لاعتبارات عدة، هو تلك الوثيقة المسربة بالتزامن مع تصويت «مجلس الشيوخ» على مشروع راند بول آنف الذكر، والتي تقول إن واشنطن تدفع رواتب لنحو 16 ألف سوري لتغطية نشاطات لها علاقة بالصورة الأميركية المرتسمة في أذهان السوريين، وأن هذا يمثل جزءاً، فحسب، من مبالغ يجري تخصيصها لخدمة المصالح الأميركية في المنطقة.
مثل هذا لا بد أن يترك «بثوراً» على سطوح المجتمع السوري: الاجتماعية والثقافية والفكرية، والراجح هو أنها ستعلي من رصيد «الليبراليين» المتنامي منذ سقوط بغداد 2003.