قضايا وآراء

من كيسنجر إلى بلينكن.. الوديعة الإسرائيلية ذاتها!

| محمد نادر العمري

قبيل رحيله بأسابيع، عاصر وزير الخارجية الأميركي الأسبق والملقب بثعلب السياسة الخارجية الأميركية هنري كيسنجر، فترة زمنية لا تختلف كثيراً عما عاصره أثناء حرب تشرين التحريرية التي اندلعت في السادس من تشرين الأول من العام 1973، عندما تعرض أمن الكيان الإسرائيلي لأول مرة لتهديد حقيقي إثر التحالف العسكري السوري المصري في تلك الحقبة.

كيسنجر الذي تفاجأ بما حصل عام 1973، وسعى لإمساك زمام المبادرة من حيث منع أي من القيادتين السورية والمصرية من استغلال ما تم تحقيقه على جبهتيهما، أبى أن يغمض عينيه بعد 100عام قضاها في هذه الحياة، إلا وهو يشاهد أحد ورثته الدبلوماسيين يقوم بما قام به في فترة السبعينيات من أجل حماية الكيان الإسرائيلي وتأمين كل مقومات أمنه وتفوقه العسكري.

بالمقارنة ما بين حرب تشرين 1973، وعملية «طوفان الأقصى» في 2023، ورغم مرور نصف قرن، إلا أن المؤكد والثابت هو استمرار الدعم الأميركي للكيان الإسرائيلي كأحد محددات السياسة الخارجية لاعتبارات عدة، ولاسيما من خلال الدور الذي يضطلع به وزير الخارجية في تقديم هذا الدعم في المراحل القتالية بل وزيادتها وفق الإمكانات والظروف التي تسهم بذلك.

في العودة للتاريخ قليلاً لعام 1973 وفق ما جاء في مذكراته، يقول كيسنجر: إنه تفاجأ من تمكن كل من الجيشين السوري والمصري من تحقيق إنجازات مهمة وسريعة على خطا «بارليف» على الجبهة المصرية و«آلون» على الجبهة السورية، كما تفاجأ بحجم الانهيار الذي كانت تشهده إسرائيل في تلك الساعات وفق مذكراته، من دون وجود أي تحذيرات استخباراتية إسرائيلية أو أميركية حول هذا التطور الخطير الذي بات يهدد أمن هذا الكيان وفق توصيف رئيسة الحكومة الإسرائيلية حينها غولدا مائير في رسالة الاستغاثة التي أرسلتها لكيسنجر، وهو ما دفع الأخير للمسارعة لتحقيق عدة نقاط:

أولاً- معرفة حجم الخسائر التي تكبدتها قوات الاحتلال الإسرائيلية على الجبهتين السورية والمصرية.

ثانياً- محاولة إيقاف تقدم القوات العربية على هاتين الجبهتين لمنح الوقت لقوات الاحتلال لترتيب قواتها وتزويدها بالأسلحة المطلوبة بهدف إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل السادس من تشرين الأول.

ثالثاً- التنسيق مع وزارة الدفاع الأميركية والكونغرس لمد إسرائيل بجسر جوي عسكري لكل ما تحتاج إليه، من بينها دبابات «إم 60» وصواريخ سايدوندر الحرارية وغيرها، بعد أن فقدت إسرائيل 500 دبابة و49 طائرة خلال ساعات من شن حرب تشرين.

الانحياز الكامل لمصلحة إسرائيل، وطلب كيسنجر من السفير الإسرائيلي في واشنطن استنفار كل جماعات الضغط الإسرائيلية للضغط على الكونغرس والرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، للموافقة على كل طلبات إسرائيل العسكرية والمسارعة للتنسيق مع موسكو للوصول لاتفاق وقف إطلاق نار دون الإشارة لانسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة، كانت تشكل تماهياً دبلوماسياً كاملاً مع المصالح الإسرائيلية، حتى إن كيسنجر الذي تولى وزارة الخارجية الأميركية قبل ثلاثة أسابيع من حرب تشرين 1973 خلفاً لوليام روجرز في تلك الآونة، وكما هو وارد في مذكراته، استغل كلاً من ضعف شخصية وزير الدفاع جيمس شليزنجر وفضيحة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فيما عرف بقضية «ووترغيت» لزيادة دوره التأثيري داخل الولايات المتحدة الأميركية على المستويين السياسي والعسكري لتقديم كل أشكال الدعم المقدم لإسرائيل.

هذه النقاط وغيرها التي سعى كيسنجر لتكريسها منذ نصف قرن لحماية الكيان في المنطقة، لم تختلف كثيراً عن الدور الذي أداه ومازال يؤديه وزير الخارجية الأميركي الحالي أنتوني بلينكن بهدف تحقيق الغاية ذاتها، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالحشد الدبلوماسي الدولي الداعم لتل أبيب ضد ما قامت به المقاومة فجر السابع من تشرين الأول عام 2023، إلى جانب مد جسر جوي عسكري داعم لهذا الكيان في عدوانه على قطاع غزة مرفقاً بإرسال تحشيدات عسكرية أميركية في الإقليم لردع أي دعم عسكري أو توسع جبهات القتال في المنطقة، واستند بلينكن لتحقيق ذلك على دوره المتنامي داخل الإدارة الأميركية نتيجة عوامل عدة أبرزها، تقدم الرئيس الأميركي جو بايدن في العمر وعدم قدرته على إدارة كل الملفات بتفاصيلها مع ازدياد الشكوك بقدراته العقلية والجسدية بالتزامن مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.

كان من الواضح أن بلينكن ساهم بشكل كبير ومؤثر في تأمين عوامل الدعم للكيان من خلال:

أولاً- في الجانب السياسي سارع لزيارة تل أبيب وحضر أول اجتماع لمجلس الحرب الإسرائيلي وأعلن صراحة انحيازه الصريح والكامل للكيان الإسرائيلي وتفاخر بيهوديته في الزيارة الأولى، وفي الإطار ذاته قام بلينكن بزيارة لدول المنطقة ساعياً لتجريم المقاومة والترويج لمشروع التهجير بحق الفلسطينيين وردع أي دولة من التدخل لمصلحة المقاومة، ومهد لزيارة الرئيس بايدن لتل أبيب لأول مرة في تاريخ الرؤساء الأميركيين الذين يزورون الكيان أثناء الحرب، فضلاً عن استخدام الولايات المتحدة الأميركية لحق النقض الفيتو داخل مجلس الأمن لمنع تمرير أي قرار يلزم الكيان وحكومته لوقف العنف والعدوان على قطاع غزة.

ثانياً- على الصعيد العسكري كرس جهوده منذ زيارته الأولى لتل أبيب بأن تقدم واشنطن كل الإمكانات العسكرية اللازمة لحماية هذا الكيان ودعمه للقضاء على الحركات المقاومة، لذلك عارض بلينكن أي جهود إقليمية ودولية لوقف إطلاق نار، وسارع لممارسة الضغوط داخل الإدارة الأميركية لفتح جسر جوي يمتد من واشنطن لتل أبيب ومد الكيان بنوعية متطورة من القنابل لاستخدامها من دون أي قيود وفق ما نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، كما لعب بلينكن دوراً مؤثراً لاتخاذ قرار يتيح لإسرائيل استخدام مخازن أسلحة الجيش الأميركي في قواعدها داخل فلسطين المحتلة، وساهم بلينكن في بيع جيش الاحتلال لنحو 14 ألفاً من قذائف الدبابات من دون مراجعة الكونغرس مستخدماً صلاحيات الطوارئ لتفادي قانون مراقبة تصدير الأسلحة.

بناء عليه، ومن خلال المقارنة بين حقبتي حرب تشرين التحريرية وعملية «طوفان الأقصى»، يمكن القول إنه ليس من العبث أن تهتم اللوبيات الصهيونية داخل الولايات المتحدة الأميركية بترشيح أسماء معظم الشخصيات في المفاصل المهمة داخل هذه الإدارات، وليس من العبث أيضاً أن يتراوح نسبة هؤلاء من اليهود في داخل أي إدارة بين 78 و85 بالمئة بما فيها وزارة الخارجية، فمن حقبة كيسنجر أثناء حرب تشرين التحريرية في سبعينيات القرن الماضي إلى حقبة بلينكن أثناء وبعد عملية «طوفان الأقصى»، الوديعة الوراثية لسائر وزراء الخارجية الأميركيين هي واحدة: تحقيق مصالح إسرائيل وحمايتها وتفوقها في السلم والحرب معاً.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن