كثيرون من رواد مواقع التواصل الاجتماعي نشروا صورة لعبوة ماء تركية على مائدة ضباط من جيش الكيان الغاصب الذي يجتاح غزة، وكثيرون أعلنوا غضبهم لأن تركيا ترسل مياهها لجيش الاحتلال الذي يشن حرب إبادة على غزة ويحرم أبناءها من الغذاء والماء والوقود والاتصالات! والحقيقة أن هذا الأمر ليس بجديد، فعقب عدوان 2014 نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت (الإسرائيلية)، تقريراً يتضمن «حقائق تكشف لأول مرة» مفادها أن الجيش الإسرائيلي كان يتناول طوال العدوان على قطاع غزة «منتجات من صنع تركي، خاصة المياه المعدنية والمأكولات المعلبة على غرار الأجبان والأسماك وبعض أنواع الحبوب والبقوليات».
أصارحكم أنني لم أفاجأ بهذا الأمر لأن تركيا منذ أيام السلطان عبد الحميد تمارس سياسة مزدوجة تجاه قضية العرب المركزية فلسطين، ظاهرها يختلف كلياً أو جزئياً مع باطنها. الشيء المؤكد هو أن عبد الحميد ورث دولة خزينتها خاوية، الأمر الذي دفع حكومته للتفتيش باستمرار عن «مصادر جديدة للقروض بفوائد وشروط غير مريحة»، ولا داعي للقول إن اليهود كانوا وما يزالون ملوك الربا والمصارف في العالم!
من المعروف أن فلسطين كانت متصرفية تابعة لولاية الشام الإدارية، وأول إجراء مثير للشكوك تم في عهد عبد الحميد هو أنه حولها في عام 1887 إلى كيان إداري مستقل باسم «متصرفية القدس الشريف» وربطها بوزارة الداخلية حيث صارت تُدار من إسطنبول مباشرة»
تؤكد الوثائق التاريخية أن المفاوضات بين هيرتزل الذي يلقبه الصهاينة بـ«موسى الجديد» والسلطان عبد الحميد، قد بدأت في عام 1896ولم تنته إلا في عام 1902، أي أنها دامت ست سنوات قام هرتزل خلالها بخمس رحلات إلى إسطنبول، كانت اثنتان منها على نفقة السلطان عبد الحميد! وهذه المعلومة تنفي رواية الرفض الحاسم التي يروجها العثمانيون الجدد ويبرؤون من خلالها السلطان عبد الحميد من جريمة احتلال فلسطين.
وصف جمال الدين الأفغاني السلطان عبد الحميد بأنه «رجل داهية… وقرماً من أقرام السياسة». ولأنه كذلك كان السلطان عبد الحميد يصدر الفرمان علناً ويغض النظر عن خروقاته على أرض الواقع، وهكذا أقيمت خلال عهده أكثر من ثلاثين مستعمرة صهيونية في فلسطين.
كان المفكر نجيب عازوري أول عربي ينبه للخطر الصهيوني، ففي كتابه «يقظة الأمة العربية». أشار إلى أن الصهاينة يتسللون إلى فلسطين عبر ضعف الإدارة العثمانية وتغلغل الفساد في أجهزتها. ، كما قام بنشر العديد من المقالات في صحف الإخلاص والمقطم، عن تساهُل الولاة المرتشين في بيع الأراضي للوكالة اليهودية وعلى رأس هؤلاء كاظم بك حاكم القدس. وقد اعتبر عازوري الأمر متعلقاً بالسلطان بشكل مباشر إذ قال: «إن رجال المابين شركاء كل حاكم يبتز الأموال ويقسمها حصصاً».
وقد استمرت الازدواجية التركية في العصر الحديث، ففي 28 آب 1958 قام ديفيد بن غوريون بزيارة سرية إلى أنقرة وقع خلالها مع رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، اتفاقية (الميثاق المحيطي) السرية التي تم تجديدها في عهد أردوغان عام 2022.
صدق من قال: عدو جدك لا يودك.