قضايا وآراء

الولايات المتحدة بين إنقاذ أوكرانيا ودعم إسرائيل

| فراس عزيز ديب

مع بداية الحرب الروسية على أوكرانيا وما تلاهُ من دعمٍ غيرِ محدود من المنظومة الغربية لنظام الرئيس الروسي فولوديمير زيلينسكي، كان السؤال عن قدرة روسيا على العموم في البحر الأوكراني فيما لو كان سلاح الـ«ناتو» ضدها، هو إطالة مدى الحرب إلى أبعدِ حد وما يعنيهِ من استنزافٍ للروس اقتصادياً وعسكرياً إلى أبعدِ حد، ربما نجحت هذهِ الخطة في إرباك الروس بشكلٍ معقول تحديداً بما يتعلق بالشق العسكري، لكن ومع دخولِ الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها الثالث، بدت الأولويات الأميركية تصب من دون شك لمصلحة توجيه الدعم باتجاه الكيان الصهيوني والتعاطي بواقعيةٍ مفرطة مع الملف الأوكراني لدرجةٍ باتَ معها هذا الملف شبهَ غائبٍ عن وسائل الإعلام إلا ما خلا من قيام زيلينسكي وأركان نظامه بتوجيهِ تهديداتٍ بشن هجوماتٍ مضادة يعلم هو قبلَ غيره، بأن لا معنى لها من دون دعمٍ مباشر من «ناتو» والاستجابة لطلباته التي لا تنتهي للمساعدات العسكرية والمالية، وهذا التجاهل الأميركي يبدو منطقياً لأنه يستند إلى أمرينِ أساسيين:

أولاً: بما بتعلق بالجانب الأوكراني فلا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار نظام زيلينسكي نظاماً حليفاً للولايات المتحدة، على اعتبار أن التحالف بين الدول يستند إلى علاقة تاريخية ضاربة في الجذور وتكامل في الأولويات والطموحات وهذا ما لم يحققه نظام زيلينسكي، كما أن أوكرانيا ليست قاعدة متقدمة لـ«ناتو» بالمفهوم الإستراتيجي بل يمكننا القول إنها تحولت إلى ساحة حرب لإزعاج الروس بعدَ أن كانت مجردَ صندوقِ رسائل، بالإضافة إلى ذلك فإن فكرة إشعال نار الحرب الروسية الأوكرانية وصب الزيت على النار وبعكس الكثير من الحروب التي تبنتها الولايات المتحدة، فهي لم تلقَ ذاك القبول شعبياً وبجزء معقول من الجانب الرسمي ما انعكس جدالاً لا ينتهي بما يتعلق بفكرةِ الدعم من أساسها، فعلى المستوى الرسمي ما زال الجمهوريون يعارضون تلك المساعدات المقدمة لأوكرانيا لدرجة أن الكتلة الجمهورية في مجلس الشيوخ طلبت مبادلة الموافقة على المساعدات بموافقة الكتلة الديمقراطية على اقتراح قانون الهجرة الجديد الذي تقدم بهِ الجمهوريون ويرفضه الديمقراطيون لأنه حسب زعمهم قانون ينهل من عنصرية الرئيس السابق دونالد ترامب بذريعة حماية الأمن القومي الأميركي، أما على المستوى الشعبي فالأمر لا يختلف كثيراً حيث تشير استطلاعات الرأي وكان آخرها استطلاع نشرتهُ «أسوشيتد بريس» نهاية الشهر الماضي إلى رفض أكثر من ستين بالمئة من الأميركيين لما يتم تقديمه من دعم للجانبٍ الأوكراني، عدا المنظمات التي تُعنى بشؤون البيئة التي ترى بإمدادات السلاح المزيدَ من الفوضى، لكن الديمقراطيين ما زالوا يلعبونَ على فكرةِ أن أوكرانيا لا يمكنها الصمود وحيدة والولايات المتحدة لا يمكنها منح الروس انتصاراً سهلاً، أخيراً فإن شبهات الفساد التي تلف نظام زيلينسكي شكلت فعلياً مواضعَ شك حول الهدف من تلك المساعدات، بل إن وسائل إعلام أميركية ذهبت أبعدَ من ذلك عندما تحدثت عن وثيقة أميركية تبناها مسؤولون في إدارة الرئيس جو بايدن تحدثت صراحةً عن القلق الأميركي من فسادِ النظام الأوكراني ما يعني ضياع المساعدات وسط تباطؤ كبير في سعي نظام زيلينسكي لإجراء إصلاحاتٍ مطلوبة لاقتلاعِ الفاسدين، ما يعني ضياع الثقة كاملةً بالهدف الأساسي من المساعدات التي لا تتوقف.

ثانياً: فيما يتعلق بالجانب الإسرائيلي فالحالة تبدو مختلفة رأساً على عقب، ربما لسنا بحاجةٍ للكثير من الإسهاب لشرح المكانة التي يتمتع بها الكيان الصهيوني في الولايات المتحدة إن كان على المستوى الرسمي أو الشعبي، بالإضافة إلى ذلك فإن ما يدفع الإدارات الأميركية المتعاقبة للإسراع إلى إنقاذ الكيان مع بداية كل حربٍ جديدة، أن الكيان في كلِّ حربٍ يخوضها تبدو بالنسبةِ له هي حرب وجودية، والأسباب حكماً معروفة أهمها أنه وبعكس الجانب الأوكراني فلا يستند إلى جغرافيا ولا تاريخ شكلت دعائمَ نشوئهِ كدولة، هو مجرد كيان وظيفي أشبهَ بقاعدةٍ عسكرية متقدمة للولايات المتحدة الأميركية، دعكم من ترهات دعم اللوبيات اليهودية وما شابه، لأن الكيان حاجة أميركية وفكرة جعله دولة لليهود أو للصهيونية هي مجرد مصطلحات الهدف منها اتهام كل من يعاديه بمعاداة السامية، من ناحيةٍ ثانية يبدو هناك الكثير من المعطيات التي تستخدمها الإدارات الأميركية مسوغاً لتبرير الدعم للكيان تستند بمعظمها إلى بروباغندا معتادة منها مثلاً وجود الكيان كنظامٍ ديمقراطي وسط بحرٍ من الديكتاتوريات في هذا الشرق البائس، بالإضافة إلى ذلك وجود نظام سياسي يحكم الكيان يتمتع بشفافية تمنع إلى حدٍّ بعيد ضياع المساعدات في شبهات فساد، وهي إن حصلت فعلى مجالٍ ضيق، ختاماً فإن المساعدات العسكرية لا تتم فقط بإشرافٍ مباشر من البنتاغون بل هناك من يتحدث عن ما هو أبعد من ذلك، أي المشاركة الأميركية المباشرة في استخدام هذه المساعدات العسكرية، من بينها وجود قوات أميركية تشارك بشكلٍ مباشر في الحرب على غزة، أو الحديث عن وجود قاعدة أميركية في النقب تشرف على مسار العمليات أولاً بأول، على هذا الأساس لا يبدو أن الحالة الإسرائيلية تشكل مادة للانقسام في الداخل الأميركي، وهنا لا يوجد ديمقراطي يرفض مساعدة إسرائيل أو جمهوري يريد أن يعرف أين تذهب المساعدات، لذلك بدت الولايات المتحدة في لحظةٍ ما غيرَ قادرةٍ على إحداث توازن ما في الموقف بين الحربين، ما جعلَ الكفة تميل من دون نقاش لمصلحة الكيان الصهيوني، لكن أين الروس من كل ذلك؟

مع بداية عملية «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول الماضي، لم يوفر فولوديمير زيلينسكي أي مناسبةٍ لإظهار الدعم الكامل للكيان وهو أمر ليس بغريب فهو كان يكرر بشكلٍ دائم أن أوكرانيا هي إسرائيل، لكن اللافت أن كل الطلبات التي تقدم بها زيلينسكي لزيارة إسرائيل لإعلان الدعم وقتها، قوبلت بالرفض من الجانب الإسرائيلي الذي لم يوفر استقبال أي مسؤول غربي لإظهار المظلومية الإسرائيلية، وكثر الحديث يومها عن أسباب الرفض التي امتزجت بالكثيرِ من السخرية من شخص زيلينسكي، لكن فعلياً بدا السبب الأكثر إقناعاً هي الرغبة الإسرائيلية بعدم استفزاز الروس وما يعنيهِ هذا الاستفزاز بهذا الوقت الحرج، ربما نجح قادة الكيان بتسجيل نقاط على الجانب الروسي لكنها حكماً ليست نقاطاً كفيلة بإحداثِ تبدلٍ في الموقف الروسي المتوازن من الأحداث الذي يرى بضرورةِ إنهاء الاحتلال والانتقال إلى حل الدولتين وفق الشرعية الدولية،

لكن الحديث تجاوز فكرة مجرد تسجيل النقاط، فهناك من يرى أن الموقف الروسي حتى الآن لم يتعد فكرة الإدانة للجرائم الإسرائيلية وبمعنى آخر، من الواضح بأن صفقة ما قد تمت، واشترى من خلالها الإسرائيليون الصمت الروسي، لكننا لم نفهم عملياً الصمت عن ماذا؟ إذا كان الموقف الروسي واضحاً بإدانة كل الجرائم، أما إن كان البعض ينتظر من الروسي الدخول في مواجهة مباشرة مع الكيان دفاعاً عن الفلسطينيين، فالروس لم يرفعوا يوماً شعار رمي إسرائيل في البحر، أو جعلها رماداً، على هذا الأساس لا يبدو الموقف الروسي ملتبساً، أما قدرته على الاستفادة من مجريات الأحداث فهي لم تكن نتاج بازار سياسي لا يبدو بأنه مضطر إليه، لأن التململ من الحرب الأوكرانية والدعوة لوضعِ حدّ لها ولو خرج الروس منتصرين، هي حالة غربية عامة أكثر ما هي حالة روسية، آخرهم كان رئيس وزراء المجر الذي رفض من الآن دخول أوكرانيا الاتحاد الأوروبي ما يعني ضربَ الإجماع الذي يحتاجه إقرار أوكرانيا كعضو دائم في الاتحاد الأوروبي، فماذا ينتظرنا؟

قد يدخل البعض حرباً لكي ينتصر، وإن كنا لم نعد فيهِ في زمن تستطيع فيه المعارك حسم الخيارات، لكن البعض قد ينتصر بالاستفادة من معارك الآخرين، وهذا الأمر طبقته الولايات المتحدة عندما دعمت الانتحار الأوكراني بالحرب مع روسيا، ولكن اليوم يبدو وكأن السحر انقلبَ على الساحر، فهل بات الغرب يمهد فعلياً للانتصار الروسي في أوكرانيا؟

من السذاجة إعطاء جواب حاسم، لكن المعطيات تشير أن الكثير من الملفات بدأت تأخذ أبعاداً جديدة.

كاتب سوري مقيم في فرنسا

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن