منذ عقود وأنا أتابع احتفالية العرب باليوم العالمي للغة العربية، وكل وزارة معنية أو هيئة أو مجمع يحضّر لندوات أو محاضرات احتفالية بيوم اللغة العربية، وتلقى الخطب العصماء، ويستخرج المتنبي من قبره ليلقي شعره، وربما تمت الاستعانة بشعراء اليوم لتدبيج قصائد مدحية في اللغة العربية وقيمتها وأهميتها والحرب التي تشن عليها من أعدائها!!
وفي كل مرة، أي في كل عام يعاد الكلام نفسه، وربما كان المتحدثون أنفسهم، ثم يعود المتحدثون إلى غرفهم المغلقة كأنهم لم يخرجوا ولم يتحدثوا!! المهم أنه دبّج محاضرة واستعان فيها بالقرآن الكريم والشعر القديم والحديث، وفي أغلب الأحيان يلقي المتحدث، إن كان من الشخصيات الاعتبارية هذه الكلمة نفسها في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من عام!
ما أهمية أن تلقى محاضرة لا يحضرها غير المحاضرين؟!
ما الغاية من إقامة ندوة يتحدث فيها أهل العروس عن محاسن عروسهم؟!
تحولت اللغة من هوية إلى مناسبة قومية أو سياسية أو دينية يتحدث فيها المتحدثون ثم ينفضّ المجلس دون أي نتيجة!
هل وقف المعنيون باللغة أمام ما تمّ إنجازه خلال عام مضى، ووضعوه أمام معيار النقد الحقيقي؟
هل يتقبل هؤلاء الآراء التي تشير إلى عجزهم المطلق أمام ما تحتاجه اللغة؟
كل الذين يتحدثون في يوم اللغة، هم من الذين يتعيشّون على اللغة، لذلك تجدهم يعددون منجزاتهم التي لا يراها سواهم! فهم قرروا، وهم صدروا كتباً ومعاجم تغص بالأغلاط ولم يسمع بها سواهم، وسوى المحاسب الذي صرف لهم المكافآت! حتى أرفف المكتبات تئن من ثقل هذه الكتب التي لا يتناولها حتى صاحبها! وإذا توجهت بنقد ما، فإنه غير مقبول، وتصبح خصماً للغة والمؤسسات، وربما صرت خصماً للدولة، ولن يتوقف سيل الاتهامات لك!
يتحدث المتحدثون عن اللغة العربية، وأكثرهم لا يجيدها، بل ويشرّع للغة رجل لا يعرف جزم الفعل المضارع المعتل! ومثل هؤلاء يضعون التشريعات للغة، ويرون أن ما هم فيه جاء عن جدارة!
لا يهمنا، المهم أن نسأل: كيف يكون الاحتفال باللغة؟
أهم إدارة أو مدرسة إدارية مرهونة بالنتائج، وعند النظر إلى النتائج نعرف النجاح أو الإخفاق، ولا أقول الفشل، حتى لا يتهمني واحدهم باستعمال غلط شائع، ولو جوّزه المجمع القاهري..!
الحكم على النتائج يجب أن يكون من القائمين على العمل أولاً وببادرة منهم، فأقسام اللغة العربية يجب أن تراجع نتائجها وكتبها ومحاضراتها، وأن تنظر في المادة العلمية التي يقدمونها، وهل يقدم المدرسون محاضراتهم بلغة فصيحة قريبة لا تقعّر فيها، تحبب الجيل الناشئ باللغة؟ أظن أن النتائج لو جمعت ستكون سلبية، إذ تستخدم العامية في المحاضرات، وفي أقسام اللغة العربية، وبعد ذلك تتنادى هذه الأقسام للاحتفال بيوم اللغة العربية، وهذا الاحتفال نفسه تتخلله عامية مرذولة..!
ولو رجعنا إلى الأقسام الأخرى النظرية كانت النتائج مرعبة، وفي الأقسام العلمية التي كانت تعلم باللغة العربية لأصبحت اليوم تنادي بالأجنبية أو بالعامية، وهناك من يسوّغ عملها!
مجمع اللغة العربية، وهو المؤسسة المفترض أن تكون الراعية للغة، ليس في السنّ والتشريع، بل بكل ما يتعلق باللغة، هل أجرى يوماً ما مراجعة لما تم إنجازه؟ هل أجرى دراسة لتأثير الأبحاث المنشورة؟ هل راجع ندواته ومحاضراته وما تقدمه؟ أم المهم أن تعقد هذه الأنشطة بمن حضر، وأن تنشر الأبحاث بما حضر؟
هل يكفي أن نسعى لتحويل هذه المؤسسة إلى دار نشر؟ هل يكفي أن نحتفي باللغة ونحتفل بها؟
اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة، جهتان معنيتان باللغة، هل تقومان بمراجعة الأنشطة، وتقيسان المستوى اللغوي في الأبحاث والمحاضرات والندوات؟
هذا من جهة المؤسسات ومراجعتها لذاتها، وإعلان نتائج المراجعة إلى العلن، فاللغة والعناية بها ليستا أمراً سرياً، وعلى هذه المؤسسات أن تعلن مراجعاتها ونتائجها سواء أخفقت أم نجحت..
والمراجعة الأخرى يجب أن تدعو إليها هذه المؤسسات والمشرفون عليها، إن امتلكوا أدنى سكة من العلمية وقبول الرأي الآخر، إذ عليهم أن يحددوا موعداً سنوياً يكون مفتوحاً للحوار مع المهتمين والخبراء، وأن يتلقفوا آراءهم ويصنفوها.. لا أن يرى الواحد منهم في المؤسسة ملكية، وفي النقد جريمة..
لو فعلنا، ولم نفعل، وأظننا لن نفعل.. نكون قد خدمنا لغتنا، واستغنينا عن كل خطاب إنشائي وعظي، وتركنا عظام الراحلين مرتاحة في قبورهم.
تعالوا نحتفل بيوم اللغة العربية! دعوة جميلة، وبادرة مهمة، لكن عرس اللغة يحتاج منا أن يكون أهل العرس قادرين على التميز ولو بالبساطة.
كتب الدكتور عمر فروخ كتاباً مهماً قبل نصف قرن بعنوان (تجديد في المسلمين لا الإسلام) وأستعير عبارته وأستميحه في رقدته (تجديد في متولّي اللغة العربية لا العربية).