قضايا وآراء

الحرب على غزة.. إلى الاستعصاء

| عبد المنعم علي عيسى

مع دخول الحرب على غزة شهرها الثالث، بدا أن العنوان الأبرز لها هو «الاستعصاء» حتى ليصح أن يصبح هذا «مانشيتاً» عريضاً يصور واقعها، كما يمكن له أن يعطي الدلالة الأعمق لما يليه من سطور، والاستعصاء هنا هو تعبير عن أزمة دخلها طرفان، أو أكثر، ولم يستطع أي منهما أو منهم، فرض إرادته على الآخر، سواء أكان عبر الوسائل السياسية أم العسكرية، ما يفضي عادة إلى دخول الصراع مرحلة «الأقلمة» أو «التدويل» الذي يعني ضمنا خروج موازين القوى عن «محليتها» حيث يصبح للخارج فيها دور لا يقل شأناً عن هذي الأخيرة، هذا إن لم يكن يفوقه في حالات عدة.

عشية يوم 6 تشرين الأول، الذي مثل اليوم الـ60 لبدء الحرب، كان كل شيء في ملامح الصراع يؤكد تلك الحالة، فلا الزج بخمس فرق عسكرية مكتملة العديد والعتاد أدى للسيطرة، والتمكين، على رقعة جغرافية محدودة لا تزيد مساحتها سوى قليل عن 360 كيلو متراً مربعاً، ولا استخدام أعتى صنوف الأسلحة الذي جرى بغزارة لربما لم يشهدها التاريخ بعد، قاد إلى انكسار إرادة المقاومة بشقيها العسكري والشعبي، بل على العكس يمكن القول إن الأولى ازدادت صلابتها كما زالت «هيبة» التهديدات لديها، وهي لا تزال حتى اليوم تختطّ ملاحم راكمتها إنجازات عدة أبرزها أن العربات، وكذا الدوريات الراجلة، لجيش الغزو أصبحت «دريئة» سهلة للتصويب عليها جراء الفعلين آنفي الذكر، أما الثانية فقد أبدت تلاحماً لافتاً مع سابقتها بدرجة تؤكد أن نسيج هذه الأخيرة لم يكن سوى نتاج طبيعي لنسيجها الذي بات على يقين بأن «دواليب» التفاوض التي بدأت مع «أوسلو» قد لا تقف عن دورانها قبل أن تهترئ «إطاراتها» التي صممت أصلا لكي تكون بصلاحية طويلة المدى.

بعيداً عن ذلك، يمكن القول إن معطيات الميدان أفرزت، ولا تزال، العديد من المعوقات التي كانت تصب في خدمة «المقاومة الإسلامية» وبعيداً عن خدمة آلة عسكرية حرص الغرب على أن تظهر بالصورة المثلى من حيث قدرتها على التدمير، فكلما اتسع مدى هذا الأخير، كان الفعل معاندا لعمل الآلة العسكرية الماضية في عمليتها البرية التي بات هدفها الأهم، وغير المعلن، هو الضغط لمساندة «المفاوض» الإسرائيلي في الحصول على تنازلات يمكن أن تحفظ ماء وجه «قيادته» التي باتت على مواعيد عدة لا أحد منها يبشر بالسلامة، وتكون مسانداً لعمل «المقاومة» التي يتيح لها فعل التدمير المزيد من القدرة على «التخفي» والمناورة من حيث النتيجة، فتدمير ما فوق السطح أمر لا يصيب الأنفاق بأضرار كبرى بل لربما يساعد في إخفائها ويفعل من عامل المفاجأة الذي بات يشكل، بدرجة أكبر مما سبق، عاملاً فاعلاً في الميدان، والمؤكد هو أن صورة هذا الأخير لا تشبه كثيراً تلك التي تعمل على تصديرها أربع عشرة قناة إخبارية عبرية ما انفكت تعمل على ترسيخ صورة، لدى جمهورها في الداخل وذاك الذي يساندها في الخارج، مفادها بأن «النصر بات قاب قوسين أو أدنى»، ومن المؤكد أن المنبر البسيط الذي يستخدمه «أبو عبيدة»، الناطق العسكري باسم «كتائب القسام»، كان قد استطاع إحداث الشرخ تلو الآخر في نسيج تلك الصورة لدى الجمهورين المستهدفين لأنه، ببساطة، كان يتمتع بمصداقية أكبر هذا إن لم نقل بمهنية تفوقت على نظيرتها على آلة إعلامية تعتد بزخم مالي وتقني غير محدودين.

ما يزيد من تعقيد «الاستعصاء» العسكري، المتمثل بكون القوة الإسرائيلية قد قامت بكل ما تستطيع القيام به حتى وصلت في سياقات الفعل إلى وضعية «اللا قدرة» على فعل المزيد، هو أن «الاستعصاء» السياسي يبدو وكأنه في طريق هو أكثر تعقيداً من سابقه العسكري، والمشكلة التي تحكم قرار «كابينيت الحرب» لا تكمن في عدم تحقيق أهدافها التي وضعته للعملية البرية التي أطلقتها يوم 27 تشرين الأول الماضي في غزة، وإنما تكمن في أن التراجع الآن يبدو أمرا مستحيلا، ومهما تكن النتائج المترتبة عن عدم اتخاذ قرار كهذا، والراجح هو أن هذه الأخيرة باتت تنتهج الآن إستراتيجية يمكن اختصارها بالقول: إن استمرار الحرب، على سوئها، هو أفضل، بما لا يقاس، من توقفها.

كنتيجة، يمكن القول بعد مرور 73 يوماً على بدء الحرب، إن الحل مستعص، وإن معطيات الميدان لا تشي بإمكان الخروج من حالة الاستعصاء آنفة الذكر، بل إن «المرحلة الثالثة» من الحرب تبدو أكثر تعقيدا على وقع مطالب أميركية بدت ضاغطة في الآونة الأخيرة وهي تتمحور حول وجوب «الانسحاب من أماكن الاحتكاك المباشر مع المدنيين، والقتال عن بعد» الأمر الذي أشار إليه المتحدث باسم جيش الاحتلال دانيال هاغاري بالقول: إنه «سيبدأ بعد وقت قريب» ما يعني انصياع تل أبيب لتلك المطالب.

لن تخرج إسرائيل من هذه الحرب إلا وهي مصابة بعطب بنيوي واضح، فالدعم اللامحدود الذي سارع الغرب للتعبير عنه منذ الساعات الأولى ليوم 7 تشرين الأول، بدأ اليوم يتخذ طابعاً «محدوداً» أو هو خاضع لحسابات ذات طيف واسع، وهذه الحسابات سوف تقود إلى مراجعات نقدية لدى محاور الفكر الغربي ومن ثم الثقافي عند هذا الأخير، لتنتقل بعدها إلى محاور السياسة التي لا نعرف، الآن، كم من الوقت يحتاج الفعل للوصول إلى هذه الأخيرة، تماماً كما سار موضوع «زرع» الكيان الذي بدأ بمقدمات فكرية وثقافية نمت بين ظهراني الغرب أولاً، ثم لم تلبث أن انتقلت إلى نظيرة لها في السياسة كانت قد تمثلت في إصدار وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور، لوعده الشهير شهر تشرين الثاني من العام 1917.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن