مسافة صفر مصطلح سياسي وعسكري جديد دخل إلى سردية اليوم بعد أن صاغته دماء مقاتلين أشاوس لا يخشون في اللـه لومةَ لائم، قهروا للمرة الأولى جيشاً كان يدّعي أنه لا يُقهر فأخذ بقتل أسراه تهرّباً من مفاوضات وصفقات تملك المقاومة بها اليد العليا، فمسافة صفر بهذا المعنى والمعاني الكثيرة التي يوحي بها ليست تعبيراً بسيطاً أو عابراً أبداً؛ فهو مسافة صفر بين من هو مُحاصَر لسنوات ولا يملك إلا سلاحاً شخصياً ليواجه به قصف الطائرات والدبّابات والمدرّعات، وآخر ما تمّ التوصّل إلى إنتاجه من الأسلحة المتطوّرة والقذرة.
هذه هي المرّة الأولى التي يتمكّن بها أي طرف أن يقاوم الجيش الصهيوني لسبعين يوماً ونيّف، وهذه هي المرّة الأولى التي يتكبّد فيها العدوّ الصهيوني هذا الحجم من الخسائر وتهتزّ أركان وجوده الاستعماري الاستيطاني الظالم نتيجة تصميم شعبٍ أبيّ أصيل على أن يفدي أرضه وشعبه وتاريخه وتراثه بروحه، وأن يزلزل الأرض تحت أقدامهم من دون أن يتمكّنوا من إزاحته أو تهجيره.
ولكنّ هذا البأس وهذا الشموخ وهذا الفداء قد قوبل من قبل عدو جبان مدعوم إعلامياً وعسكرياً من قبل طغاة الغرب بإبادة الأطفال والنساء وتطهير عرقيّ لشعب فلسطين الأصيل لم يشهد التاريخ لهما مثيلاً، وإيقاف هذه الإبادة ليست مسؤولية الفلسطينيين المنخرطين في مقاومة مشرّفة بكلّ ما أوتوا من قوّة، ولكنّها مسؤولية الآخرين، كلّ الآخرين من البشر وفي أي رقعة صدف أن يتواجدوا على هذه الأرض وبأيّ موقع كانوا. هي مسؤولية إنسانية؛ كلّ إنسان يرى أن قوّة غاشمة تحرم إخوته في الإنسانية الماء والغذاء والوقود والدواء، وتحرمهم السكن والسكينة، وتحرمهم من أدنى مقوّمات الحياة الكريمة، فكيف لأي إنسان عربي أو عجمي، ومن أي معتقد أو بلد كان أن تقبل إنسانيته بالصمت والعيش والنوم الهادئ وهو يرى ما يرى ويسمع ما يسمع ويعلم ما يعلم.
إنّ مسافة صفر تُملي على كلّ إنسان على هذه البسيطة ويحمل قدراً من الشعور الإنساني أن يعلم أن مسافة صفر هي بين إنسانيته وإنسانية كل طفل فلسطيني وكلّ امرأة وكلّ رجل قضى دفاعاً ليس عن أرض فلسطين وحدها وليس عن شعب فلسطين وحده، وإنما عن كرامة الإنسان في كلّ مكان وعن حقّه أن يعيش حرّاً عزيزاً على أرضه، وأن يدحر القوى الظالمة التي تعمل على سلبه أركان إنسانيته وعيشه الكريم.
في هذا التوقيت، وبعد كلّ ما شاهدناه من بسالة إنسانية فلسطينية ومقاومة في فلسطين والعراق ولبنان واليمن، أصبحت مسافة صفر فرضاً وواجباً على كلّ كُتّاب ومُفكري وممثلي وفناني العالم أن يكرّسوا إنتاجهم الأدبي والدرامي والفني والمسرحي والسينمائي لنُصرة الحقّ في معركة حوّلت المسافة بين الحقّ ودُعاته وأبطاله الحقيقيين إلى مسافة صفر، وأيّ تقاعس عن إشهار أكبر أساليب وآيات التبنّي لهذه المقاومة الرائدة التي تقاوم دفاعاً عن إنسانية كلّ إنسان في هذا الكوكب، أي تقاعس هو خذلان وانحياز مقصود أو غير مقصود للباطل والمستعمر والمستوطن والنازيين والعنصريين.
مسافة صفر فضحت كلّ أكاذيبهم التي درجوا على إقناع العالم بها لعقود خلت؛ فقد برهنت ألا حرّية ولا ديمقراطية ولا حقوق إنسان لديهم على الإطلاق، وأنّ رؤساء الجامعات التي يُفاخرون بها أمام العالم يتمّ إخضاعهم لتحقيق واستجواب مُهين، ومن ثمّ يُرغمون على الاستقالة من مواقعهم الأكاديمية لأنهم لم يسيروا كالرّعاع وراء المقولات المُعدَّة مسبقاً من قبل حفنة من النازيين المعتدين على كرامة وإنسانية الإنسان.
مسافة صفر فضحتهم أخلاقياً وبرهنت ألا أخلاق لديهم على الإطلاق، حين يُرغِمون معتقلين أن يسيروا شبه عُراة ويعرضونهم على وسائل الإعلام من دون أدنى تنديد من إعلام غربي منافق، فهذا سقوط أخلاقي مُزْرٍ لأي أحد أو قوّة في العالم تقوم بمثل هذه الممارسة الدنيئة والشنيعة، وهذا يُضاف إلى سجلّهم الزاخر بالمجازر الوحشية وبالتنكيل بالأسرى وتكسير عظامهم وحرمانهم من أبسط حقوق الأسرى المنصوص عليها في الأديان والشرائع والقوانين الدولية.
وبالمقارنة فإن وجوه الأسرى الإسرائيليين والآخرين من جنسيّات مختلفة ممن غادروا المقاومين، كانت تنبض بالمحبّة والمودّة وتقول أعينهم شكراً لكم، وهذا لا يمكن أن تراه إلا نتيجة معاملة أخلاقية لائقة تفرضها معتقدات وتراكم حضاري لا يمكن للمال شراؤه ولا للتكنولوجيا تصنيعه، وما التنكيل بالأسرى وتعذيبهم وقتلهم وإهانتهم إلا أن يكون تراثاً غربياً شائعاً منذ القرون الوسطى ولحد اليوم، وما تعذيب المستعمر الفرنسي والإيطالي والبريطاني والأميركي للأسرى وقتلهم، إلا أمثلة قريبة كما حدث في أبو غريب وغوانتانامو وسبرينتث، وكما يحدث منذ 75 عاماً في السجن الكبير الذي اسمه إسرائيل العنصرية.
في اليوم الـ 72 لاستحضار حاملات الطائرات والغوّاصات النووية، وفتح أبواب السلاح الأميركية والأوروبية على مصراعيها للكيان الغاصب، والدفاع المستميت في سردياتهم عن أكذوبة «الدفاع عن النفس»، ووسط التجويع والتدمير والإبادة المشينة والتطهير لعشرات الآلاف من الأطفال والنساء والمدنيين، يزحف مقاتلون على تراب عشقوه والتحموا به من مسافة صفر، تتيمّم أرجلهم وألبستهم بقداسة هذا التراب الجميل الذي يدافعون عنه بدمائهم، يزحفون ومن مسافة صفر يُجهزون على المغتصبين والمعتدين والمحتلين، ويُحرّرون البقعة المقدّسة التي هي أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم.
لا يمكن لمعتدٍ أجنبي لقيط ودخيل على هذه الأرض والثقافة والتاريخ، أن يفهم نفسيّة مَن تنطق أقدامهم بحنان التراب عليهم وعلى أجسادهم الغضّة، لا يمكن له أن يفهم كيف يفكّر هؤلاء، وما هو الدافع الذي يدفعهم للتضحية بأنفسهم ومحاربة كلّ أساليب القوّة والغدر والقسوة والسطوة، ذلك لأنهم لم يكونوا يوماً أصحاب قضية ولا يعلمون ماذا يعني أن تكون صاحب قضية!
أن تكون صاحب قضية أي أن تكون إنساناً حرّاً فخوراً بإنسانيتك وحريتك وكرامتك وانتمائك، أن تكون صاحب قضية ملتزم بها وعامل على رفعتها، أي أن تكون في أعلى درجات السموّ الإنساني بعكس كلّ آلاف الكتب التي أنتجها الغرب عن خطورة ومساوئ الالتزام على الحريّة الفردية، وأنّ الأدب الملتزم لا يمكن أن يكون مبدعاً، والفنّ الملتزم لا يمكن أن يكون عالمياً.
لقد برهنت مسافة صفر واحتضان المقاومة الأصيل في كلّ البلدان المقاوِمة لقضاياها، أن القضية هي التي تسمو بإنسانية الإنسان مهما دفع من أثمان، وأنّ الإنسان من دون قضية لا يمكن أن يكون حرّاً ولا إنساناً مكتمل الإنسانية.
إنّ المقاومة في فلسطين ولبنان وسورية والعراق واليمن تُقدّم هدية ثمينة للبشرية أن يحتضنوا قضية تحرير الأرض من المحتلّين، وأن يقفوا إلى جانب الحقّ، وإلى جانب الارتقاء بإنسانيتهم وكرامتهم وحرّيتهم فعلاً لا قولاً، والتخلّص من كلّ المفاهيم الكاذبة والمزيّفة التي استخدمها الغرب لخداع البشرية، والتي أصبحت في مقبرة النفايات بعد صمود مسافة صفر، وتجلّي مفاهيمها النبيلة للعالم أجمع.