إن الأمم تتدهورُ إن هي لم تعِ كيف تنمِّي مواهبَ أبنائها ومواطنيها، وتفنى إن هي لم تدركْ كيف تستثمرُ هذه المواهبَ وترعاها.
للوهلةِ الأولى قد يخطئ المرءُ في اكتشاف موهبته الحقيقية ؛ فيقف طويلاً حائراً أمام نفسه، فإذا أراد التعلُّمَ فإنه لا يدري أي العلوم أو الآداب أنسب له وأقرب لمهوى نفسه، وليس في هذا خطرٌ لأن هذا التقديرَ (الخاطئ) يمكن تصحيحُه في أي وقت واستدراكُ ما فات.
لكن الخطر كلَّ الخطرِ هو أن يقومَ امرؤٌ آخرُ من حيث يدري أو من حيث لا يدري بإضاعةِ تلكَ الموهبة أو قتلها، ولا يدرك أنه بذلك إنما يسيءُ إلى نفسه وإلى المجتمع والوطن.
ولا مناصَ من أن يتعجبَ المرءُ حين يجدُ في كل مناحي الحياةِ مَن يسعى دوماً إلى كبتِ موهبةٍ ناشئةٍ أو الحدِّ من انتشارِ موهبةٍ بارزة، وذلك لأسبابٍ شتى؛ لو أمعنَّا النظر فيها، وتناولناها بعين التدقيقِ والتمحيص لوجدناها تندرجُ جميعاً تحت عنوان (الرأي الشخصي)، وما ذاك إلا لأننا ما نزال في كثير من مجالات عملنا لا نعتمد على قواعدَ ثابتةٍ ومعاييرَ واضحة؛ فيأخذ بعضَنا الإعجابُ بما لا يستحقُّ النظر إليه، ويأنفُ بعضُنا النظرِ فيما ما هو قيِّمٌ وثمين، وهكذا سنبقى ندورُ في حلْقةٍ مفرغة؛ نظن فيها أنفسنا نتقدم، لكننا نراوح مكاننا لا نريم.
ليس أشدَّ فتكاً بالنفس الإنسانية وأقسى تحطيماً لها من أن تُهمل وتُنسى، وليس أكثر تنميةً لها ورعاية من أن يُشدَّ أزرُها ويؤخذ بيدها، وإن أشد ما يحتاج إليه الوطن أن تصبَّ فيه طاقات أبنائه، وأن يُحسَنَ استثمارُها واستخدامها، فما بال أولئك الذين يضربون عرض الحائط بطاقات أبنائه، ناسين أو متناسين أن العنب لا يصبح عنباً إلا بعد أن يكون حصرماً، وأن الحصرم لا ينضج ويكتمل إلا إذا وُجد من (يسقيه) وينمِّيه ويرعاه، ومتى نمتلك الوعي الكافي الذي يجعلنا نتيقن أن نجاحنا مرتبط بنجاح أبنائنا وموظفينا وعمالنا، وأن تسرعنا في الحكم على بعض المواهب يعني أننا نسدُّ طريق النجاح أمام بعض مواهبنا الشابة التي قد يحتاج إليها الوطن بشدة في المستقبل، وعندما يكون هذا الحكم جائراً ؛ فإن المحكومَ عليه وإن كان مبدعاً سوف ينكفئُ على نفسه، وينقطع عن (ممارسة) العمل الإبداعي الذي يتطلب رعاية وسقاية ودعاية.
يقترف خطأً شديداً من يزيلُ برعماً صغيراً، أو يمنعُ نشوءه، لأن هذا البرعمَ هو شجرةُ المستقبل، وليس فينا من يرغبُ في أن يكون مستقبلنا صحراءَ جرداء.
إن الأمم القوية تشكِّلُ (لجنةً) خاصة لاكتشاف المواهب وتمييز المهارات، لا تتركُ الحبلَ على الغارب، فيُقالُ مديرٌ ناجح، ويُنقلُ موظفٌ بارع، ويَدرُسُ هاوٍ لعلمٍ ما أدباً لا يرغبُ به، ويُحدَّدُ عمل إنسان ضمن إطارات فاشلة أصلاً، ويُبعدُ جيِّدٌ ليقرَّب فاشل.
أين التنمية، وأين الرعاية والعناية والسقاية والتعهد؟
إن كلَّ إخفاق في الاختيار أو تخبُّطٍ في صناعة قرار إنما هو إبرةٌ بل معولٌ ينخر في جسد المجتمعات، بل قُل هو سقفٌ خشبي يتداعى، ويتآكلُ رويداً رويداً، حتى إذا ما هوى فجأةً تساءل الجاهلون عن الأسباب.
فلينظر كلٌّ من موقعه، ما هو؟ وماذا يفعل؟ وعلى أي أساس يتصرف؟
حين تكون (المصلحةُ العامة) هي الأساس الحقيقيَّ لكل تصرفاتنا وقراراتنا وأصول تربيتنا نكن وقتها أمة راقية تبلغ بنجاحها عنان السماء.
هكذا تفعل الأمم القوية.
لعمري إن البراعةَ كلَّ البراعة في الاكتشاف والتنمية والتشجيع والتعزيز، وإن الفشل كلَّ الفشلِ في التهميش والتطنيش والتطفيش.