قبل نحو ثلاثين عاماً سألت الصديق المبدع الكبير الراحل سعد اللـه ونوس عقب عودته من رحلة العلاج من السرطان في باريس، عن صديق له يقيم هناك، فأجابني مقطباً: «مات!» صعقتني الكلمة، وقبل أن يتحرر لساني من الدهشة التي اعتقلته، تابع سعد اللـه الكلام قائلاً بمرارة: «في طريقنا إلى شقته، كنت أكلمه بالعربية، فيجيبني بالفرنسية، وقد تابع ذلك حتى ونحن في المصعد بمفردنا»!
أعترف أن هذه الحادثة المؤلمة لا تكف عن تذكيري بنفسها كلما سمعت عربيين يتكلمان بلغة أجنبية، ويزداد شعوري بالألم إذا كانت لغتهما الأجنبية عرجاء أو مزيجاً شائهاً من لغات عديدة. صحيح أنني لم أتحدث مع سعد اللـه يوماً عن علاقته باللغات، لكنني أعرف من خلال نصوصه الإبداعية مدى احترامه للغته الأم، كان سعد اللـه يتقن الفرنسية تماماً لأنه درس في تلك البلاد، ومن خلال هذه الحادثة قال لي، بشكل غير مباشر، إن تخلي المرء عن لغته الأم هو بالنسبة له ضرب من الموت.
تذكرت هذه الحادثة، لمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الذي مر يوم الإثنين الماضي 18 كانون الأول، كما تذكرت ما قاله الأستاذ الجامعي والمفكر الكبير إدوارد سعيد في إحدى مقابلاته التلفزيونية بالإنجليزية: «اللغة العربية هي في رأيي أحد أعظم إنتاجات العقل البشري، هي لغة الشعر والروحانية واللاهوت، كما هي لغة القانون والفكاهة الاستثنائية أيضاً. هي لغة السرد حيث إنها تحوي أعظم مآثر السرد الروائي، فألف ليلة وليلة ورحلات ابن بطوطة كلها كتبت بالعربية، كما أن العربية هي لغة أعظم الديانات في العالم، فالقرآن، أي كلمة الله، نزل بالعربية. إنها لغة غنية لكنها تعرضت للتشويه لأنها تعتبر لغة من الصعب تعلمها، وهذا غير صحيح. لكنه من المثير للاهتمام أن الكثير من الهجمات الثقافية على العرب ترتكز على اللغة العربية، إذ تتهم بأنها لغة العنف والصخب والادعاءات المروعة، وهذا غير صحيح. فهي لغة مرنة ومتأقلمة، ومعظم كتابات الإغريق العلمية والفلسفية، مثل أرسطو وغيره، انتقلت إلينا عبر الترجمات العربية، وهذا الحس باللغة يوحدنا لأنها لغة الدين والحياة اليومية ولغة الغزل والمجتمع وإمكاناتها غير محدودة».
شيء مؤسف حقاً أن اليوم العالمي للغة العربية مر بهدوء يوم الإثنين الماضي، لكن طفلاً فلسطينياً جميلاً، في السادسة أو السابعة من العمر احتفل بهذه المناسبة، على طريقته، فقال بلسان عربي عذب أقرب إلى الفصحى: «لمناسبة اليوم العالمي للغة العربية: أجمل ما قيل في الإنجاز: ولَّعِت. / وأجمل ما قيل في الوفاء: لعيونك يا بو حسين فرحات. / وأجمل ما قيل في الهجاء: لا سمح الله! / وأجمل ما قيل في التحدي: أتتوعدنا بما ننتظر يا بن اليهودية! / وأجمل ما قيل في الثقة: تقلقش (أي لا تقلق). / وأجمل ما قيل في التثبيت: تْعَيِّطْشْ يا زلمه (لا تبك يا رجل) نحن مشاريع شهادة. / وأجمل ما قيل في الوداع: هاذي (هذه) روح الروح. / وأهم ما قيل في الصبر: المهم أن ترضى يا رب. / وأجمل ما قيل في الأمانات: بلغوا سلامنا لرسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم. / وأجمل ما قيل في بداية المراحل: انتهى الزمن الذي يعربد فيه المحتل من دون محاسبة».
أعترف أن كلمات هذه الفتى الجميل قد هزتني ورسخت يقيني بأنه لا يموت حق وراءه مطالب، بل جعلتني أسمع مراراً صوت شاعر دمشق نزار قباني وهو ينشد: «يا تلاميذَ غزّة /عَلّمونا بعضَ ما عندكم فَنَحنُ نَسينا/ عَلِّمونا بأن نكونَ رجالاً/ فلدينا الرِّجالُ صاروا عَجينا».