إذا أحصينا جميع أنواع القتل الوحشي وإبادة الشعوب التي استخدمتها الدول الاستعمارية طوال قرن ونصف القرن ضد شعوب العالم، وتلك ضد بعضها بعضاً للتنافس على التوسع الاستعماري وخاصة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فإننا نجد أن كل هذه الأنواع استخدمها الكيان الإسرائيلي دفعة واحدة وبوتيرة متسارعة وأكثر وحشية علنية وواضحة خلال أشهر ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية.
وكانت تلك الدول الاستعمارية التاريخية لا تقتل الشعوب بنيرانها فقط بل وبنشر الأوبئة المعدية المميتة فيها وخاصة الطاعون والكوليرا والتيفوئيد، وها هو الكيان الإسرائيلي يعترف اليوم بأن حربه المتواصلة على قطاع غزة بجميع أنواع الأسلحة القاتلة ولدت في القطاع أمراضاً معدية تؤدي إلى موت المصابين فيها وخاصة من الأطفال، ففي مقال اضطرت إلى نشره صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية لأهداف تتعلق بتحذير جنود الاحتلال المنتشرين في القطاع من الإصابة بهذه الأمراض المعدية وعدم نقلها إلى داخل إسرائيل، اعترفت الصحيفة فيه أن «تقريراً استخلصته خلال الأسابيع الماضية من زيارة مراسلين إلى المستشفيات الإسرائيلية التي تعالج الجنود الذين أصيبوا بجراح في القطاع، ثبت منه أنهم يحملون في أجسامهم بكتيريات تقاوم المضادات الحيوية المألوفة والتهابات متنوعة غير معتاد وجودها في إسرائيل».
وفي مقابلة أجرتها الصحيفة مع البروفيسورة الإسرائيلية غاليا رهاف والبروفيسور سيريل كوهين وهما من المختصين بالأمراض المعدية والأوبئة في لقاء متلفز، أوضح الاثنان طبيعة الأخطار التي سيجلبها الجنود من الحرب في أجسامهم إلى داخل إسرائيل حين يعودون من القطاع، وأضافت الصحيفة: إن «جميع المستشفيات التي تلقى فيها جنود علاجاً من جراحهم، وجدت لديهم أمراض معدية جديدة بسبب عملهم في تربة ملوثة وسيرهم بالوحل والتعفنات الناجمة عن خراب الصرف الصحي في القطاع»، وكان مدير عام منظمة الصحة العالمية تادروس غافريسوس قد حذر من «الأخطار التي بدأ يتعرض لها سكان القطاع باختلاطات مسممة وأمراض سريعة العدوى نتيجة الدمار والجوع والخراب الذي أصاب شبكات الصرف الصحي وانعدام النظافة»، وطالب بإيقاف النار «لأن الموت بسبب الأمراض والأوبئة سيفتك بالكثيرين إذا استمرت الحرب الإسرائيلية على السكان في القطاع وخاصة بين الأطفال الذين يعانون من جوع مستمر طوال أشهر الحرب ويفتقرون للعلاج والأدوية بعد تدمير المستشفيات»، ويعترف كوهين أن «القلق يزداد على استمرار وجود الجنود في غزة لأنه من المستحيل منع انتقال عدوى هذه الأمراض والأوبئة عنهم وقد تظهر فيهم بكتيريا لم نتمكن حتى الآن من التغلب على أخطارها».
تقول البروفيسورة رهاف إن «البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية التي اكتشفت لدى الجنود الجرحى مثل بكتيريا كليبسيلا التي يعرفها الجميع، هي بكتيريا يكتسبها المرضى عادة بعد أشهر أو أسابيع من العلاج في المستشفى»، وهذا يعني أن جنود الاحتلال سينشرون هذه البكتيريا في المجتمع الإسرائيلي بعد علاج جراحهم.
يعترف كوهين أن «كل التقدم الذي أحرزناه في القرن الماضي في تطوير المضادات الحيوية، غير فعال في هذه الحالة، ولذلك لا نريد أن تلحق هذه العدوى الضرر بالجنود وبالطبع ألا تنتشر ولا تلحق الضرر داخل إسرائيل».
من الواضح أن هذا الكيان لا يهتم بأخطار هذه البكتيريا والأوبئة القاتلة وخاصة على الأطفال الفلسطينيين طالما لا تصيب بالعدوى جنوده بل هو يمعن في نشرها حين يمنع دخول الماء والغذاء والدواء ويشدد الحصار لكي يبيد وجود الشعب في القطاع علناً بجميع أشكال القتل والمذابح والأوبئة أمام صمت العالم كله، وهو يفعل ذلك على غرار ما فعله الجيش الأميركي حين احتل العراق وأباد فيها أكثر من 700 ألف من المدنيين بنيران مباشرة، بموجب الصحف البريطانية، وأصاب أكثر من مليون بالجراح والإعاقة، وقد تبين أن نسبة من الجيش الأميركي أصيب بأمراض معدية بسبب العمليات داخل العراق وما ولدته من أسباب انتشار الأمراض المعدية بين الأميركيين وجرت معالجة المصابين الجنود في الولايات المتحدة بعد انسحابها، ولا شك أن بقاء جيش الاحتلال في القطاع لن يطول لأن عمليات المقاومة تلاحقه يومياً وفي كل ساعة وكذلك أصبحت الأوبئة والأمراض المعدية التي يولدها بحربه الوحشية ترتد عليه بالمثل وتصيب جنوده داخل القطاع وهو ما لا يتحمله الكيان من انتشارها داخله، ولا شك أن محاكمة هذا الكيان بجرائم الحرب لن تقتصر على القتل المباشر بنيرانه للأطفال والنساء بل باستخدام كل أشكال القتل التي تعد جرائم حرب موصوفة ومنها نشر الأوبئة والأمراض المعدية لإبادة شعب بأكمله.