خلال الفترة التي سبقت عام 2023، بدت آفاق الاقتصاد العالمي قاتمة، وتوقع المحللون أن تفضي الحرب الأوكرانية، وارتفاع أسعار الطاقة الناجمة عنها، إلى انكماش اقتصادي خطير في أوروبا، وأعلنت منصة «بلومبيرج إيكونوميكس» أن احتمال معاناة الولايات المتحدة من الركود قائم بنسبة 100 في المئة، وكان أغلب الاقتصادات النامية قد عانى ارتفاع أسعار الطاقة، وارتفاع أسعار الفائدة، والانكماش في الاقتصادات المتقدمة.
خلال العام الجاري، كانت الأجندة الاقتصادية العالمية مثقلة بالأحداث؛ ففي تموز، انعقد منتدى الأمم المتحدة السياسي المكرس لرصد تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وفي أيلول، انعقدت القمة الثانية لأهداف التنمية المستدامة، وأيضاً قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، التي أعقبتها في تشرين الأول الاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مراكش، وآخرها مؤتمر الأمم المتحدة السنوي لتغير المناخ في دبي «كوب28».
لقد شهد النظام الاقتصادي العالمي الذي يقوده الغرب الأميركي الأوروبي عاماً قاسياً، والسبب يكمن بالإجهاد الداخلي الذي أدى لتفاقم الشكوك في العالم حول مدى فاعلية هذا النظام وشرعيته، ويشير المشهد إلى زيادة عدد الدول التي تسعى لبناء بدائل للنظام الذي يقوده الغرب، والذي يهدد بزيادة التفتت والتشظي، وتآكل وتراجع الدور القيادي للولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي التعجيل بالتحول إلى نطاق الفوضى العالمية على مستوى النظام بالكامل وأن الشكوك حول النظام الاقتصادي الذي يقوده الغرب بدأت عملياً قبل عام 2023.
خلال الـ15 عاماً الأخيرة، تسببت أخطاء السياسات الغربية إلى سلسلة من الارتباكات بتقويض مصداقية وعمل هذا النظام ؛ وشملت هذه الارتباكات الأزمة المالية العالمية في 2008، واستمرار استخدام العقوبات التجارية والاستثمارية كسلاحٍ ضد الدول والمؤسسات على نحو متزايد بما في ذلك العقوبات الظالمة على سورية وسرقة ثرواتها النفطية والزراعية من أميركا ومرتزقتها، ودعم أميركا للتنظيمات الإرهابية، وسوء تقدير البنوك المركزية للتضخم بوصفه «مؤقتاً»، والعواقب المترتبة على الزيادات العنيفة في أسعار الفائدة من جانب البنوك.
ويلاحظ أن النظام ازداد ضعفاً بسبب عجزه عن معالجة تحديات عالمية ملحة مثل تغير المناخ وأزمة الديون المتفاقمة في الجنوب، ومع هذه الضغوط، ينظر إلى المؤسسات الدولية التي يهيمن عليها الغرب بوصفها عاجزة أيضاً.
في عام 2023 ازداد الإحباط الواسع الانتشار إزاء النظام الذي يقوده الغرب من خلال ظاهرتين:
أولهما، أن روسيا تمكنت من الحفاظ على علاقات تجارية نشطة رغم العقوبات الخانقة ظاهريا، التي قيدت قدرة البلاد على استخدام نظام الدفع الدولي سويفت ووضعت سقفا لأسعار صادراتها من النفط، لكن خطط التجارة والمدفوعات التي ابتكرتها روسيا، مكنتها من النجاح بتقليص الأضرار التي لحقت باقتصادها وتمويل جهودها الحربية في أوكرانيا، كما تلقت روسيا، في جهودها لمواجهة العقوبات الغربية، الدعم من مجموعة من الدول.
ثانيهما، كان الدور المتحيز الذي تلعبه واشنطن في الحرب الإسرائيلية على غزة، من منظور عدد كبير من الدول، سبباً في فضح كذب الالتزام المعلن من جانب أميركا باحترام حقوق الإنسان الأساسية ورياء امتثالها للقانون الدولي، ودعم أميركا المطلق لإسرائيل في حربها على غزة.
اعترف الرئيس الأميركي جو بايدن أخيراً، والملايين من الناس في مختلف أنحاء العالم، بأن رد إسرائيل الهمجي على العملية الفدائية التي نفذتها حماس في السابع من تشرين الأول تجاوز كل الحدود، وخسرت إسرائيل الدعم الدولي؛ في التصويت الأخير على وقف إطلاق النار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وصوتت 153 دولة لمصلحة القرار مقابل عشر دول فقط ضده، وامتناع 23 دولة عن التصويت.
وطالبت عدة دول بضرورة معاقبة إسرائيل لتجاهلها القانون الدولي وتنفيذها حرب إبادة ضد المدنيين في غزة.
ويشعر العالم بالرعب إزاء التحذيرات التي أطلقها المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى «أونروا» فيليب لازاريني، واصفاً الوضع الحالي في غزة بأنه «جحيم على الأرض».
مع استمرار تصاعد الأزمة الإنسانية في غزة، أعربت معظم دول العالم عن قناعتها من أن الولايات المتحدة، بدعمها لحكومة إسرائيل تبدو شريكة في الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة، وتتحمل مع حكومة الحرب الصهيونية مسؤولية جرائم الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وخير شاهد كان القرار الذي اتخذته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بتجاوز صلاحيات الكونغرس لتقديم مزيد من المساعدات العسكرية لإسرائيل، بعد يوم واحد فقط من استخدام الولايات المتحدة حق النقض ضد قرار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية، وإلى تعزيز هذا التصور.
لقد حقق النظام العالمي فشلاً، وسيحل محله نظام جديد يرتكز على الصين وروسيا، والدليل كان في اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة واحتمالات تصعيدها على المستوى الإقليمي، واشتداد وطيس الحرب الأوكرانية، والاضطرابات السياسية في بعض الدول الغربية، علاوة على ذلك، كانت التقلبات غير العادية في سوق سندات الخزانة الأميركية التي تشكل معياراً أساسياً لعدد كبير من الأسواق المحلية والدولية لتغذي المخاوف بشأن ركود عالمي يلوح في الأفق، كما كان ليفعل إفلاس البنوك الأميركية.
لوحظ في الولايات المتحدة تضاؤل مدخرات الأسر، فضلاً عن ارتفاع الديون، وذلك يلقي بظلال قاتمة على توقعات النمو للعام المقبل، ومع غياب ركائز اقتصادية وسياسية وفنية قوية، ظلت عائدات سندات الخزانة الأميركية شديدة التقلب.
وكلما طال أمد هذه الحالة من عدم الاستقرار، ارتفعت احتمالات تسبب مخاطر أسعار الفائدة في إشعال شرارة الذعر فيما يرتبط بالائتمان والأسهم والسيولة.
وقد تؤدي التحولات الجيوسياسية إلى تفاقم نقاط الضعف الاقتصادية والمالية، مع تسبب الخسائر البشرية الهائلة والمروعة الناجمة عن الصراعات الجارية، وخاصة في غزة، في تعظيم خطر التصعيد وتقويض الاستقرار العالمي.
كما يهدد الموقف الذي اتخذته الولايات المتحدة إزاء الصراع الدائر في الشرق الأوسط بالتعجيل بتفتت النظام الاقتصادي الدولي، وتقليص مكانة أميركا ونفوذها العالمي بدرجة أكبر وخاصة أن أميركا مقبلة على انتخابات حامية يرافقها الكثير من التمزق والصراعات الداخلية.
الاقتصاد العالمي يواجه مخاطر متعددة، كارتفاع التضخم وارتفاعات أسعار الفائدة وارتفاع الدين العام، ما أضعف قدرة الحكومات على استخدام سياسة مالية توسعية في التصدي للنمو المتباطئ.
إن الآفاق الاقتصادية العالمية ليست وردية على الإطلاق، فصندوق النقد الدولي يرى أن النمو العالمي في 2023 منخفض إلى3 في المئة، وفي 2024 إلى 2.9 في المئة مع معاناة الدول المتقدمة والنامية على حد سواء.
هذه التطورات، تؤكد الاعتقاد بهشاشة وضعف النظام الدولي الذي يؤيده الغرب وتسرع بالانتقال من اقتصاد عالمي أحادي القطب إلى اقتصاد عالمي متعدد الأقطاب.
وهذا يشجع دولاً أصغر حجماً متحالفة مع الغرب على التفكير في التحول إلى دول متأرجحة وتبتعد تدريجياً عن الغرب، وهذه التطورات تشي بزيادة خطر تفاقم حالة التفتت والانزلاق السريع إلى الفوضى العالمية المتنامية التي دعمتها وأججتها أميركا خلال عام 2023.
وزير وسفير سوري سابق