ثقافة وفن

أبو إسحاق الأشهبي الغزي شاهد حضارة من مدينة غزة انطلق ليحكي قصتها ويقدم إبداعه الشعري

| إسماعيل مروة

إن مدينة غزة، والتي يطلق اسمها اليوم على القطاع كله ليست مدينة حديثة، وما تعيشه اليوم ليس طارئاً في حياتها، فهي مدينة تمرّست على التعب، وما عرفت في تاريخها القريب أو البعيد شيئاً من الاستقرار، بل إنها نتيجة موقعها ومكانتها كانت مطمعاً دوماً، وهي مدينة حضارة أنجبت لنا علماء وشعراء ومبدعين، ولعلّ أهم من خرج من غزة الإمام محمد بن إدريس الشافعي منتصف القرن الثاني للهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، وسيد القياس وتقعيد الفقه، وواحد من الشعراء الذين لا يشق لهم غبار.. وممن أخرجت غزة إبراهيم بن عثمان الأشهبي أبو إسحاق المعروف بالغزي في القرنين الخامس والسادس الهجريين.

الغزي والعصر

«ومن بني كلب الذين نزلوا فلسطين إبراهيم عثمان بن محمد الأشهبي، وقد نزل غزة، ولهذه القبيلة شأن في فلسطين حيث كان لها مكانة كبيرة في زمن الدولة الأموية، ومن أشهر رجالاتها في ذلك الوقت حسان بن مالك الكلبي الذي ولي فلسطين لمعاوية وابنه، وكذلك زواج معاوية من ميسون بنت مجدل الكلبية، وإلى بني كلب ينسب بنو عامر الذين سمي مرج بني عامر باسمهم».

فغزة ليست كما يحاولون تصويرها مجموعة من المخيمات والناس، وإنما كانت حاضرة عربية عظيمة، وفيها أزكى الأصول العربية، وأهلها مقصد الخليفة ليرتبط بهم وبنسبهم، والأسماء العربية فيها أصيلة وترد إلى أصحابها العرب، ومرج بني عامر خير مثال لها. وإليهم ينتسب شاعرنا أبو إسحق الأشهبي، ولاسمه دلالة كبيرة ولقبيلته.

غزة حاضرة العلم

يذكر محقق ديوانه الأستاذ الدكتور عبد الرزاق حسين أن الشاعر ولد في غزة المعروفة الحاضرة في فلسطين سنة إحدى وأربعين وأربعمئة للهجرة. وتلقى تعليمه الأولي فيها، وغادرها وهو في ريعان الشباب، وذلك لتلقي العلم في دمشق، وللظروف التي كانت تحيط ببلده من ذلك الوقت، فالاضطراب السياسي، والحالة المعيشية المتردية، إلى جانب طموح الشاعر، كل ذلك كان من الأسباب التي جعلته يغادر موطنه الذي لم يره بعد ذلك».

وها هو الشاعر الغزي الذي أجبرته الظروف على مغادرة بلده ومهده غزة يتحدث عن رحلته داخل فلسطين بكثير من الحزن:

أين دعواك والغواني عواني
والمعاني واللفظ حاز المعاني
ونواك الشطون إزماعك الرحـ
لة من غزة إلى عسقلان؟

وفي قصيدة بديعة يصف حاله وترحاله من دمشق إلى حلب إلى خراسان، وحنينه إلى ذكرياته في بلده غزة يقول الشاعر، ويستذكر أيام السعادة والهدوء، ويرجو أن تعود الحياة الطبيعية إلى مدينة غزة وبلاده، وهو الذي شهد التقلبات السياسية والقلاقل والاضطرابات:

رعى الله أيام العقيق التي خلت
فوشي الهوى من صنعها وفرنده
إذا محضت كف الهوى العمر فاغتنم
وخذ ما صفا من عيشه فهو زبده
ولا ترج مهما زارك الفقر زائلاً
فإن القتير الموت والبيت خلده
ولو كنت ممن يطلب الرفق سالماً
من الغمر بالشرب الذي طاب ثمده
لقد ضاق بي سهل البلاد وحزنها
وخالفني حر الذميل وعبده
ألفت السرى والسير والصبح والدجا
كما يألف القلب المقيم وجده
فيوماً تراني فوق مصر صعيدها
ويوماً تراني فوق جيحون صعده
لعل هدوءاً في التقلقل كامن
لأجل هدوء الطفل حرّك مهده

غزة ورجالها

في قسم اعتاد المحققون إدراجه في الكتب المحققة للحديث عن عقيدة الشاعر أو مذهبه، يذكر المحقق أن الشاعر كان شافعي المذهب، ويذكر لذلك أشعاراً قالها متنوعة القافية يتحدث فيها عن الشافعي، وهذه الأبيات بعيداً عن المذهب والعقيدة، هي من فخر الشاعر الغزي بالشافعي ومنجزه العلمي والفقهي، وخاصة أن الشافعي ابن مدينة غزة هو من شقق الفقه ووضع أصوله، وكل المصنفين يذكرون للشافعي اجتهاده في وضع أصول الفقه، والذي احتذاه علماء اللغة، فوضعوا أصول النحو مستهدين بما فعله الشافعي، كما يتفق على ذلك النحاة… والشافعي في مرحلة تقدمت ثلاثة قرون على الغزي، غادر غزة في طلب العلم ونشره فقصد مصر وأقام فيها، حتى كانت نكبة وما فعله معه الجهال، وتوفي غريباً أيضاً.

رسم ابن إدريس فيها غير مندرس
ما أنت فيه لنصر القول بالعمل
أرضى النبي محمداً بحقائق
أحيا بهنّ الشافعي محمدا
أحيا ابن إدريس درساً كنت تورده
تحار في نظمه الأفهام والفكر
فالشافعي مهنّاً في رمسه
ببلوغ صيتك برقة من شاش

الحكم والحياة

إن ما تعرضت له غزة قرابة العقود الثمانية التي عاشها الغزي من اضطرابات دفعته للاغتراب والابتعاد، وها هو يتحدث عن حوادث الزمن وتقلباتها، وعدم ديمومتها، فيقدم قراءته المليئة بالإيمان والتسليم في أبيات غاية في الحكمة، ويخلص فيها إلى تدابير القدر وتصاريفه، وهو الشاعر الذي شهد له المصنفون ببراعته وتفوقه، وهو المنكوب بذاته وعلمه ووطنه، وكأنه في هذه الأبيات يبكي قدره ووطنه.

هي الحوادث لا تبقي ولا تذر
ما للبرية من محتومها وزر
ليست نفوساً وأجساماً فيدخل في
صفات أشخاصهن الطول والقصر
وإنما تلك أفعال الإله قضت
في العالمين وفي أسمائها القدر
لو كان ينجي علو من توابعها
لم تكسفِ الشمس بل لم يخسف القمر

ولد فيها ومات غريباً، وبقي الحنين إليها دوماً، وخلّف ديواناً شعرياً بدأ بالتكسب، وانتهى بالحكمة والتخفف من كل ما يثقل كاهل الإنسان في الحياة، وسيرته دالة على أن هذه المنطقة في اضطراب دائم منذ القدم، ولا تزال كذلك، ويبقى تضرّع الشاعر رسالة لنا لمعرفة تصاريف القدر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن