دخلت المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية في غزة شهرها الثالث، على وقع تغول العدو الإسرائيلي بارتكاب أبشع جرائم الحرب والإبادة الجماعية غير الموصوفة، بحق الفلسطينيين المدنيين في مقابل صمود المقاومة الفلسطينية وشعب الجبارين صموداً أسطورياً يرتقي إلى المستوى التاريخي.
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن اليوم التالي لانتهاء المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية في غزة، وأطلقت التحليلات البعيدة عن واقع الميدان العسكري الذي أثبت علو كعب المقاومة وامتلاكها زمام المبادرة، وذلك بعد رفضها لكل السيناريوهات الغربية وحتى كل العروض العربية لتبادل الأسرى قبل وقف حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، لكونها مبادرات وعروضاً عبارة عن حبل نجاة لإنقاذ إسرائيل من الهزيمة المدوية.
ونتيجة الفيتو الأميركي غير المبرر في مجلس الأمن، سقطت أو أسقطت كل المقترحات المطروحة للتصويت على قرار يقضي بوقف إطلاق النار في غزة، كما فشلت أو أفشلت كل مبادرات الأسرة الدولية والعربية، الآيلة إلى وقف المجازر الإسرائيلية المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني، ليقتصر الأمر على السماح بإدخال بضع شاحنات محملة بالمساعدات الشحيحة لا تسمن ولا تغني من جوع مئات الآلاف من الفلسطينيين المشردين والجرحى.
ولفهم الواقع الحالي لابد لنا من العودة إلى ما قبل عملية «طوفان الأقصى»، التي أدخلت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منعطفاً تاريخياً، نسف كل ما سعت إليه وأعدت له كل من إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا وبعض العرب، لإنهاء القضية الفلسطينية عبر تطبيع العلاقات وإبرام اتفاق سلام مع دول الجوار، مصر كامب ديفيد 1978، اتفاق أوسلو مع السلطة الفلسطينية 1993، ومع الأردن وادي عربة 1994، الأمر الذي أدخل الصراع العربي الإسرائيلي في سبات عميق.
ظنت أميركا شريكة إسرائيل، أنه بتلك الاتفاقات الواهية مع دول الجوار، باستطاعتهما تجاوز الحقوق الفلسطينية وأنها صارت في غياهب الجب، وأن دول التطبيع العربية، كفيلة بالضغط على الفلسطينيين للقبول بهضم حقوقهم والعيش بوطنهم فلسطين كلاجئين وتحت الوصاية الإسرائيلية، الأمر الذي سيؤدي مع مرور الوقت إلى طمس القضية الفلسطينية برمتها.
الضغط الأميركي على دول الخليج بلغ حد إفهام تلك الأنظمة، بأن الرخاء والازدهار والأمن ورغد العيش وبرامج التطور التكنولوجي والتطلع نحو مستقبل واعد بالمشاريع المنتجة، لا يمكن تحقيقها إلا بعد تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني والقبول بوجوده ككيان طبيعي في المنطقة، إضافة إلى وجوب التخلي عن المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني والاكتفاء بالدعم اللفظي أو عبر المطالبة بتنفيذ المبادرة العربية إعلامياً فقط.
وبما أن دول الخليج صاحبة الاستثمارات النفطية والملاءة المالية الأكبر في العالم، المودعة أو المحتجزة، في المصارف الأميركية والغربية، خضعت وقبل بعضها بتطبيع العلاقة مع الكيان الصهيوني، ونأت بنفسها عن إدانة إسرائيل لارتكابها مجازر إبادة وحشية بحق الفلسطينيين، وذلك خوفاً من غزوة تنظيم داعش بقرار أميركي الأمر الذي أدخل القضية الفلسطينية في متاهة الوهن العربي.
ظن العدو الإسرائيلي أنه بتطبيع العلاقات مع دول الخليج وبالأخص مع المملكة السعودية، ستتاح له الفرصة التاريخية لغزو قلب الإسلام «السني»، وبتنفيذ عملية إستراتيجية تضمن للكيان الصهيوني إلغاء صفة المحتل لفلسطين، وذلك بالقفز فوق الحقوق الفلسطينية مباشرة نحو تطبيع العلاقات وإبرام اتفاقات سلام مع الدول «السنية» في المنطقة، ولإظهار تلك الدول السنية بأنها دول تواقة للسلام وتتقبل وجود إسرائيل ككيان طبيعي ولو اغتصب وطناً عربياً اسمه فلسطين.
أما الهدف الإسرائيلي الإستراتيجي الثاني من تطبيع العلاقات مع الدول السنية، فيكمن في إغلاق باب المنطقة أمام النفوذ الإيراني «الشيعي» المتبني مناصرة القضية الفلسطينية، وتظهيره على أنه الخطر الذي يزعزع أمن واستقرار المنطقة، وبأن «الشيعة» المدعومين من إيران الإسلامية في كل من لبنان والعراق واليمن، هم فقط من يريدون مقاومة ومحاربة إسرائيل وتحرير الأقصى، في محاولة أميركية إسرائيلية لبث الفرقة وافتعال الفتنة المذهبية، بين السنة والشيعة، وبالتالي يمكن لأميركا وإسرائيل فرض واقع شرق أوسط جديد، لا فلسطين فيه ولا حقوق للفلسطينيين وحينها تحظى إسرائيل باعتراف عربي سني رسمي، الأمر الذي يضمن للكيان الصهيوني المحتل مرتبة السيادة في المنطقة.
لا غلو بالقول إن عملية طوفان الأقصى ضربت الإستراتيجية الأميركية الإسرائيلية للمنطقة، وأصابتها بمقتل وقوّمت مسار تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصاً أن أبطال عملية طوفان الأقصى هم فلسطينيون «سنة»، الأمر الذي دحض كل المزاعم الأميركية الصهيونية القائلة إن الخطر على الكيان الصهيوني من «شيعة» المنطقة، وبأن «سنة» المنطقة راغبون في إبرام السلام مع الكيان الغاصب لفلسطين.
رغم آلة القتل الإسرائيلية ورغم الإعدامات الميدانية ورغم جرائم الهدم والجرف للأراضي والمباني والمشافي، نستطيع القول وبكل ثقة، إن العدو الإسرائيلي أخفق في تحقيق أي من أهدافه المعلنة، وذلك نتيجة الصمود التاريخي للمقاومة الفلسطينية «السنية» التي تخوض أشرس المعارك ضد العدو الإسرائيلي دفاعاً عن شرف الأمة العربية.
لقد ثبت أن عملية «طوفان الأقصى» هي في تطور ذاتي مستمر وإيجابي لمصلحة القضية الفلسطينية، التي قفزت إلى مرتبة اهتمام العالمين العربي والغربي، كما أنها أسهمت في تغيير نمط تفكير الغرب المؤيد لإسرائيل، ليتحول إلى مجتمع مؤيد لفلسطين وللحقوق الفلسطينية، وهذا بحد ذاته ناتج عن الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية وللاستمرارية وللتطور الإيجابي لعملية «طوفان الأقصى».
إن التطور الذاتي لـ«طوفان الأقصى» أصاب أسس الكيان الصهيوني بالتصدع الذي يصعب ترميمه، وأحرجت دول التطبيع العربي أمام شعوبها، بعدما انكشف وهن هذا الكيان وأسقط عنه قناع السلام وأظهر وجه الإجرام الكامن في ثناياه وأماط اللثام عن نيات الخبث الإسرائيلية، التي تهدد أمن المنطقة وحتى أمن الدول العربية المطبعة معها.
إننا متفائلون بالتطور القادم رغم الدمار الهائل الذي أحدثه العدو الصهيوني في غزة، إلا أننا نستطيع القول إن صمود المقاومة الفلسطينية في غزة ومساندة حزب اللـه من لبنان والحوثيين من اليمن إضافة إلى مساندة المقاومة العراقية، جعل من التطور الإيجابي لعملية طوفان الأقصى، يعم الوطن العربي سنة وشيعة ومسيحيين، ليضيف مفهوماً جديداً ومتطوراً للإنسان العربي وحتى الإنسان الغربي، قائماً على مناهضة سياسات الظلم والحصار من الحكومات المنحازة لإسرائيل، والتحول نحو مناصرة القضية الفلسطينية، وذلك للقول وبأعلى صوت، إنه لا يمكن لأي دولة عربية مطبعة، وحتى لأميركا بذاتها مهما بلغت قوتها الاقتصادية أو العسكرية، فرض واقع شرق أوسط جديد، أو القفز فوق حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وفي تحرير وطنه فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، والعيش بكرامة الإنسان كباقي الشعوب.
رئيس ندوة العمل الوطني- لبنان