ثقافة وفن

وجوه بلا معالم والعام الجديد

| إسماعيل مروة

يطلق اسم المستحاثات في الطبيعة والعلوم على ما تراكم في باطن الأرض من أشياء ومخلوقات خلفتها الأزمنة المتعاقبة السحيقة من أقدم العصور، ومع الزمن تحولت هذه المستحاثات إلى عناصر مهمة ومفيدة، فهي التي تتشكل منها ثروات الأرض في باطنها، وهي التي استعان بها علماء الطبيعة لتحديد عمر الأرض والعصور المتعاقبة عليها، وتحولت من مجرد أشياء جامدة مضغوطة إلى كنز حقيقي ومعرفي.

ولست أدري الدافع الذي جعلني أردد هذه الكلمة، وأرفقها بكلمة (المستحاثات البشرية) وقد كان هذا الاستخدام يفاجئ كثيرين، ويروق لهم، فالذين يطلق عليهم هم في حالة سكونية قاتلة، تضغطهم طبقات أسفل منهم وأخرى أعلى منهم، فهم غير قادرين على الحركة والقول والفعل، إلا بقدر ما تسمح لهم هذه الطبقات!! وهم بفعل الطبقات الضاغطة حقيقية أو وهمية يفقدون الملامح، فتجد وجوههم بلا تعابير وبلا ملامح، إن صافحتك لا تقرأ في مصافحتها شيئاً من الود أو الكره، معالم ممسوحة، ابتسامات صفراء، أسنان مقززة ومتعبة في مرآها، تبعث الكثير من الكآبة للناظر، والغريب أنها تظن في مرآها كرماً على الآخر وتتوهم العظمة ولا تدرك أن الآخر يقرأ قعر ما فيها من بشاعة! خاصة عندما تكون هذه المستحاثة البشرية بلا معالم، ومن ثم تقوم بفرض قهرها على من تظن أنهم سيتأثرون بما تفعل! يا لوهم المستحاثة عندما تظن نفسها شيئاً بذاتها، فهي ليست أكثر من أداة لقراءة الأرض ومقدار الضغط، وتأثير الزمن في الضغط، وربما تتحول إلى كتلة يعصرها الإنسان ليأخذ منها بعض الثروات التي تفيده، وما أشبهها بالمستحاثات التي نراها متحركة، وهي في الوقت ذاته ليست أكثر من إسفنجة تجمع ما في الأرض من أشياء ليتم اعتصارها ذات لحظة.

كنا نسمع دوماً تعبيرات، وهي موجودة في الكتب: (في وجهه نور) (في وجهه وضاءة) (جلسته مريحة) (يستقبل الغمام بوجهه) (يجلب السعد) (يؤنس الوحشة) ومقابلها كلمات وعبارات مناقضة لهذه الحالات الإيجابية، والتي تعطي دلالات على قبح الإنسان في وجهه (لا يضحك للرغيف الساخن) (وجهه ممسوح) (يجلب الشؤم) (يقطع الخميرة من البيت) (يقطع وجهه المطر)، وما شابه هذه الألفاظ.

أستعيض عنها جميعها بتعبير مهم (وجهه بلا معالم) وهذا التعبير هو الأكثر حضوراً ودلالة على الحالات المتعددة، فهو الإنسان غير القادر على التعبير عن سعادة أو حزن، فهو رجل بلا عاطفة، ولا يتأثر بآلام الآخرين وأفراحهم، ولن تجد أي تفاعل مع الآخر، فتحار في قراءته أهو حزين أم سعيد؟

أهو شامت أم متعاطف؟ وفي النتيجة أنت أمام إنسان أناني لا يعنيه شيء غير نفسه ومصلحته وذاته، ولا يكترث لو انهدم الكون من ذاته أمامه..!

هذه النماذج من المستحاثات تستقبلك بابتسامة صفراء مقززة، وتغتالك بأسنان حادة، وربما بألسنة حداد لا تتخيل أبداً أن الشكل هذا، وأن الصفراوية هذه يحملان كل هذا الحقد!

وجوه لا روح فيها

أشخاص غابت معالمهم

ويصرخ الفلاسفة: يا هذا تكلم حتى أراك..

لا أحد يتكلم

والكلام لا يشي بشيء عن الشخص، وكأن اللسان لم يعد معبراً عن الإنسان، والعين جمد ماؤها وحجرها، فهي صلبة قاسية لا روح فيها، والقلب لا ينبض، والروح لا تنفعل.. ويتحول المرء إلى مستحاثة بشرية، يدخل فلا يراه أحد! يموج ويرغي ويزبد، ولا يشعر به أحد، يوزع أذاه على العالم كله، لا يترك شيئاً دون أن يؤذيه، يبقى أذاه ويذهب هو إلى جحيم المستحاثات والمعالم الغائبة.. عاش بلا معالم، ومات بلا أثر أو معالم.

مستحاثة الأرض فحم يدفئنا

ومستحاثة البشر أذى يبقى وقذىً

هل يكون العام الجديد بلا معالم؟

هل نستقبله بوجوه يستسقى الغمام بها؟

نرجو أن يكون عاماً لا قحط فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن