قضايا وآراء

تناقضات الجبهة الداخلية الإسرائيلية

| محمد نادر العمري

مع اقتراب دخول العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة شهره الرابع وقبيل أيام من انتهاء عام 2023 ودخولنا في عام 2024م، تستمر حالة التعقيد الميداني والسياسي المترافقة مع غياب أي حلول ممكنة على المستويين الإقليمي والدولي لإيجاد حلول لوقف آلة القتل والتدمير الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني في غزة، والتي أدت نتيجة الغطاء السياسي والدعم العسكري الأميركي لارتكاب أبشع المجازر التي شهدها النظام الدولي في العصر السياسي الراهن وفق توصيف المنظمات الدولية وفي مقدمها المنظمات التابعة للأمم المتحدة.

في خضم ذلك فإن معظم الترجيحات والتقديرات التي يمكن التأكيد عليها لصورة معالم المرحلة المقبلة ستكون بين مسارين، المسار الأول يتجلى بصورة التناوب الزمني بين الخيارات العسكرية والهدن المؤقتة، ومما يدعم هذا الخيار هو قدرة مجلس الأمن منذ أيام على تبني القرار 2720 الخاص بتوسيع آلية إدخال المساعدات لقطاع غزة من دون تبني التعديل الروسي المطالب بفرض وقف إطلاق نار شامل بعد استخدام المندوبة الأميركية لحق النقض «الفيتو»، بالتزامن مع تزايد الضغوط الإسرائيلية الداخلية لاستعادة الأسرى المحتجزين لدى الفصائل المقاومة واتساع دائرة المظاهرات الدولية الرافضة للاعتداءات الإسرائيلية وتراجع شعبية الرئيس الأميركي لأدنى مستوياتها بعد أن ناهزت 39 بالمئة فقط نتيجة استمرار دعمه للعدوان على الرغم من كل المجازر المرتكبة.

أما المسار الثاني الذي بات مرجحاً بعد إعلان قوات الاحتلال الإسرائيلية عن بدء المرحلة الثالثة لعدوانها على قطاع غزة فإنه يتمثل في تخفيض مستوى العمل العسكري، إلا أن مثل هذا المسار وإن بات مرجحاً لكنه غير قابل للتطبيق الكلي في ظل امتلاك واستخدام القوة العسكرية الفائضة ووجود حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة يتباهى قادة أركانها فيما بينهم على ارتكاب المزيد من المجازر، كما أن الانتقال من مرحلة لمرحلة يتطلب تحقيق الأهداف المنشودة وهو ما لم يتحقق بالنسبة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ومجلسه الحربي، سواء فيما يتعلق بالقضاء على الفصائل الفلسطينية المقاومة في غزة وفي مقدمتهم الجناح العسكري لحماس «كتائب القسام» أم باستعادة الأسرى أو غير ذلك، وهو ما يؤكد أن إعلان قوات الاحتلال الانتقال للمرحلة الثالثة من العمل العسكري هدفه الهروب خطوة للأمام لتخفيض حجم الضغوط الأميركية والدولية لإنهاء العدوان وإيقاف المجازر، وكذلك للإيحاء للداخل الإسرائيلي بأن تحقيق الأهداف بما في ذلك استعادة الأسرى بات قريباً جداً.

المساران السابقان وإن كان اللجوء لتبني أحدهما خلال المرحلة المقبلة أو لكليهما بصورة متعاقبة، بغرض احتواء الجبهات الضاغطة على الكيان من الخارج، إلا أن الاهتمام والتركيز الأكبر هو على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، لكون هذه الجبهة تشكل عامل ضغط مؤثرة على صانعي القرار وتوجهاتهم السياسية والعسكرية، إلا أن هذه الجبهة الداخلية لم تعد محصورة فقط في الفئة المتمثلة بأهالي الأسرى الموجوين لدى الفصائل الفلسطينية كما كانت عليه خلال الأيام الأولى لبدء العدوان على غزة، بل باتت تنقسم هذه الجبهة بين ثلاث فئات:

الفئة الأولى: هي تلك التي تمثل أهالي الأسرى المحتجزين لدى الفصائل المقاومة والمتعاطفين معهم، والذين يطالبون الحكومة ومجلس الحرب للكيان الإسرائيلي بإعادة أبنائهم بأي طريقة، بما في ذلك عبر الاتفاق السياسي مع الفصائل بعد إخفاق قوات الاحتلال من استعادتهم بالقوة العسكرية خلال المرحلة السابقة، ولاسيما بعد أن أدت هذه العمليات لمقتل البعض منهم وهددت بقتل البعض الآخر وفق شهادات من تحرر أو من تم إعلان مقتله وتوثيق ذلك، ولعل ما تورده وسائل الإعلام الإسرائيلية من صور ومشاهد لاستمرار احتجاجات هؤلاء وتزايد المتعاطفين معهم تجعلهم قوة ضاغطة في الداخل الإسرائيلي، وهو ما أكده رئيس لجنة الخارجية والأمن سابقاً عوفر شيلح بقوله: «حتى لو استمرت العمليات الحالية حتى نهاية شهر كانون الثاني فإن الحرب لن تحقق هدفها في القضاء على حماس ولن تعيد الأسرى».

الفئة الثانية: هي الفئة التي تضم أهالي جنود قوات الاحتلال الإسرائيلي الذين يقاتلون على جبهتي الشمال والقطاع

والجنود الجرحى، وهذه الفئة زادت ضغوطها على حكومة نتنياهو ومجلس حربه لوقف العدوان على قطاع غزة خشية على

حياة أبنائها، وخاصة مع تزايد أعداد الجرحى والقتلى من قوات الاحتلال إلى جانب اتساع أعداد المرضى النفسيين نتيجة

الخوف الذي بات يسود صفوفهم، بالتزامن مع نجاح الفصائل في إدارة الحرب النفسية عبر تصدير الصور والأصوات وغيرها من

الأدوات التي أضحت تؤثر بشكل سلبي في ثقة المستوطنين بقدرات مؤسساتهم على تحقيق أي إنجاز في قطاع غزة،

وإدراكهم بأن أهداف العدوان جزء كبير منها تصب لمصلحة مسعى نتنياهو لتحقيق مصالحه السياسية على حساب حياة أبنائهم المتطوعين أو الاحتياط.

أما الفئة الثالثة: من هذه الجبهة فإنها تتمثل في فئة المستوطنين اليهود المتطرفين الذين يطالبون بتصعيد العدوان أكثر ضد قطاع غزة وارتكاب المزيد من المجازر لتهجير أهالي القطاع، وهؤلاء يحرص نتنياهو على مراعاة مطالبهم لكونهم يشكلون داعمة انتخابية مؤيدة له للبقاء في السلطة ولتماسك ائتلافه الحكومي، وهو ما يفسر تصريح نتنياهو في جلسة الكنيست مؤخراً بالقول إنه «من الممنوع إيقاف هذه الحرب من دون تحقيق الأهداف المنشودة».

إلى جانب هذه الفئات الثلاث يمكن إضافة فئة رابعة والتي يمكن حصرها بالقوى السياسية التي تستثمر الانقسام الداخلي لتحقيق مصالح انتخابية من خلال الترويج لنفسها وإطلاق حملتها الانتخابية منذ الآن، وهو ما ينعكس على زيادة حجم الانقسام السياسي الداخلي الذي دعا رئيس هذا الكيان إسحاق هرتسوغ لتجاوز الخلافات الشخصية والسياسية، ولعل الصورة الأبرز من هذه الخلافات تتمثل فيما نشرته وسائل إعلام إسرائيلية عن وجود خلاف في القيادة السياسية بين نتنياهو وغالانت مقابل ايزنكوت وغانتس بشأن ما يجب أن تكون المرحلة القادمة من الحرب.

بالعموم، مازال الإسرائيلي يحرص على تنفيذ الهدف الأسمى له من خلال هذا العدوان والمتمثل في تهجير أهالي القطاع، ووضعه المزيد من الشروط مثل إلقاء المقاومة أسلحتها وبقاء قواته في الشمال وحصر إدخال المساعدات من خلال رقابته وإقامة مناطق آمنة هي مؤشرات تؤكد هذا التوجه، والعودة اليوم للتعاطي مع المسار السياسي الذي تتولى كل من مصر وقطر الوساطة به، ليست سوى مناورة هدفها تخفيف الضغوط وكسب المزيد من الوقت ومحاولة تحقيق بعض الأهداف.

لذلك مطلب المقاومة بعدم القبول بأي تهدئة مؤقتة تمهد لعودة التصعيد والتدمير مجدداً، والتمسك بقاعدة الكل مقابل الكل في تبادل الأسرى، وكسر الحصار المفروض على قطاع غزة هو المسار الصحيح لعدم منح هذا الكيان، ونتيجة أي ضغوط داخلية أو خارجية فرصة لإنجاح أهدافه في قطاع غزة.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن