لا أحد يشك بأن العالم بشعوبه وبالرأي العام الذي يعبر عنه، يعلن بصوت عال تعاطفه مع ما يتعرض له الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، ويندد بالمقابل بكل ما يقوم به جيش الاحتلال والكيان الإسرائيلي من مذابح واجتياحات عسكرية ودمار، وقد أصبح يختزن خلال نحو ٩٠ يوماً في ذاكرته بالصورة والصوت يومياً وفي كل ساعة ما يجري لأطفال ونساء فلسطين المحتلة في غزة وفي الضفة الغربية، فكل ما يحدث غير مسبوق في جميع الحروب وأشكال الاحتلال مثلما هو صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني، غير مسبوق ضد قوة إقليمية مدججة بكل أنواع الأسلحة الحديثة وتعد سابع قوة عسكرية في العالم وهزمها في الميدان من دون أن يفقد زمام مبادراته الهجومية الفدائية.
وكعادتها اعتادت القوى الاستعمارية، التي أنشأت هذا الكيان لخدمة مصالحها الإستراتيجية في المنطقة، على الإسراع أثناء وبعد كل حرب عدوانية إسرائيلية في المنطقة إلى رسم خططها للإلتفاف على نتائج أي انتصار عربي من أجل إنقاذ الكيان من استحقاقاته، فهذا ما فعلته بعد الانتصار السوري والمصري في حرب تشرين عام 1973 حين أعدت اتفاق وقف إطلاق النار بين مصر وسورية ثم سارعت إلى نقله إلى مرحلة فصل الشراكة القتالية بين الجيشين المصري والسوري عبر الاستفراد التدريجي والمنهجي بالرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات وإخراج مصر من ساحة الصراع في تسوية منفردة عبر اتفاقية «كامب ديفيد» لتبقى سورية وحدها في ميدانه العسكري والسياسي إلى جانب فصائل الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير ومشروع تحرير فلسطين، لكن التضامن العربي والاصطفاف الذي أعلنته كل الدول العربية مع سورية والمقاومة الفلسطينية في ذلك الوقت شكلا توازناً عربياً إقليمياً ودولياً عرقل المخطط الغربي– الإسرائيلي- الأميركي وأحبط أهدافه ضد سورية وحقوق الشعب الفلسطيني، وبعد انتفاضة السنوات الست الفلسطينية المتواصلة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1987 واستغلال حرب صدام الظالمة على الكويت عام 1991 أعدت واشنطن وحلفاؤها خطة مؤتمر مدريد عام 1993 لفرض شرق أوسط جديد أميركي– إسرائيلي تمهد فيه إلى تصفية الانتفاضة ومنجزاتها عبر اتفاقات أوسلو ومحاصرة الجيش السوري وإنهاء دوره في حماية لبنان ودعم المقاومة، ومع ذلك تمكنت سورية والمقاومة اللبنانية والفلسطينية والدور الداعم للجمهورية الإسلامية الإيرانية من إحباط هذا المخطط وتشكيل محور إقليمي يحقق الردع في مواجهة كل أشكال العدوان، وتحول العراق بعد تحريره من الجيش الأميركي والجيوش الغربية عام 2012 إلى دور مساند لهذا المحور.
وفي يومنا هذا وبعد مرور نحو ٣ أشهر على انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في قطاع غزة ومواجهة إسرائيل لها بحرب وحشية شاملة على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة بدأت الدول الغربية تعد مخططها للالتفاف على الصمود والانتصار البطولي الفلسطيني من أجل إنقاذ الكيان من استحقاقات هزيمته الصارخة وما فرضته من تفكك في تماسكه الداخلي السياسي والحزبي والاجتماعي، ففي أعقاب إحباط أهداف إسرائيل المباشرة في تهجير الشعب الفلسطيني وبث اليأس بين صفوفه والنيل من وحدته، بدأت واشنطن وتل أبيب الآن بوضع خريطة طريق سياسية خبيثة لإجهاض المقاومة الأسطورية لفصائله ومنعها من تحقيق أهدافها القريبة بشكل خاص وهي إيقاف العدوان وتبادل الأسرى وفك الحصار وتقرير مصيره فوق ترابه الوطني في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وهي أهداف أكدها ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها بشأن القضية الفلسطينية، وسيصبح التمسك بها هو قاعدة لأي حل لإيقاف النار والاتفاق على أي تهدئة لا تتناقض معها، ومن الواضح بالمقابل أن هدف مشاريع واقتراحات الحلول التي تقوم الآن تل أبيب وواشنطن بصياغتها هي العمل على نزع أسلحة المقاومة في قطاع غزة بشكل خاص وتحويله إلى أرضية يبنى عليها شرق أوسط جديد لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني في وحدته وتجميد أي دور يتمكن عبره من استكمال أهداف عملية طوفان الأقصى ميدانياً وحماية ترسانته المسلحة وتعزيز وحدة صفه مع بقية فلسطين المحتلة لإنجاز حقوقه بعد كل هذه التضحيات الجسام وغير المسبوقة في تاريخ النضال ضد الاستعمار الاستيطاني، وهو قادر على استكمال هذه المتطلبات لأن عملياته الميدانية بالمقاومة زلزلت وفتتت إرادة الكيان وجيشه والمستوطنين بشكل غير مسبوق، وبدأت مضاعفات هزيمته تظهر علناً على شكل انقسامات حول صلاحية المشروع الصهيوني الاستيطاني ومدى إمكانية حمايته والمحافظة عليه، وهذا ما تدل عليه أشكال الخطاب الإسرائيلي الداخلي المتأزم ونتائجها الصارخة في الهجرة العكسية للمستوطنين نحو أوطانهم التي جيء بهم منها وفي حملات الرأي العام العالمي المنددة بإسرائيل والدعوة إلى نزع الشرعية التي منحها لها الغرب الاستعماري، ولن يستطيع أحد محو وتجاهل تاريخ المذابح التي ارتكبها الكيان ضد أطفال ونساء، وما دمره من مدن في القطاع، وسيظل هذا التاريخ يلاحق كل من دعم وأيد وشارك بهذا المشروع الصهيوني من اليهود ومن الدول الاستعمارية، بل إن مذابح الكيان في غزة والضفة الغربية جعلت الكثيرين من اليهود يشعرون بأن ما تقوم به إسرائيل تجاوز ما قامت به النازية ضد أوروبا وضد يهود أوروبا، ولولا صمود ومقاومة وتضحيات الشعب الفلسطيني لما تحققت هذه الأهداف.