بعد التطورات والأحداث المتعددة والمتعاقبة التي شهدها النظام الدولي خلال السنوات الماضية في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية وحتى الصحية منها، فإن عام 2023 كان من الأعوام الملأى بالأحداث والتطورات المفصلية على المستوى السوري والإقليمي والدولي، ولم تخل من إخفاق دولي لحل الأزمات والصراعات نتيجة العديد من العوامل أبرزها اتساع دائرة الصراع القائمة ما بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين من جانب وروسيا الاتحادية والصين من جانب آخر، إضافة لعدم وجود إرادة ورغبة دولية ولاسيما الغربية منها لعدم إيجاد مفاعيل واقعية لحل الأزمات بل استثمارها وتزايد رقعتها للحفاظ على هيمنة الغرب على المؤسسات الدولية ومجتمعه السائد.
اتسم عام 2023 بجملة من التناقضات التي توزعت ما بين بعض الإنفراجات التي كانت جزئية في بعض ملفات الصراع، وبين الذهاب نحو التعقيد والذي برز من خلال تصلب المواقف والتوجهات السياسية للدول الكبرى، وهنا سنورد بعض النماذج عن هذه التناقضات:
– شهد الملف السوري إنفراجات على المستوى السياسي أفرزتها الأحداث المتعاقبة من تطورات عسكرية ميدانية وكارثة إنسانية عصفت بالشعب السوري وتمثلت أبرز هذه التطورات في:
١ – الكارثة الإنسانية الناجمة عن الزلزال الذي ضرب كلاً من سورية وتركيا في السادس من شباط 2023، والذي عمق من معاناة الشعب السوري نتيجة الإرهاب الاقتصادي من حصار وفرض عقوبات جائرة من جانب وهو ما أدى لضعف الإمكانات في إنقاذ الضحايا، وازدواجية المعايير من الدول والمنظمات التي تدعي الإنسانية من خلال إغداقها للمساعدات الفائضة لتركيا على حساب الشعب السوري الذي عانى من وحشية غربية.
٢ – عودة سورية لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية ومشاركة الرئيس بشار الأسد في اجتماع القمة العربية بدورتها الثانية والثلاثين والتي انعقدت في جدة السعودية منتصف شهر أيار من العام الماضي، إذ شكلت عودة سورية للجامعة العربية صفحة جديدة من العلاقات العربية- السورية كنتيجة طبيعية للاعتراف بدور دمشق ومكانتها على الساحة الإقليمية لحل الأزمات والحد من التدخلات الخارجية بعد قدرتها على مواجهة الإرهاب ووقف تمدده، إلا أن هذه العودة لم تكن تعني أبداً عودة العلاقات السورية مع كل الدول العربية، إذ ففي الوقت الذي شكل به الانفتاح السعودي على سورية الحدث الأبرز، كانت كل من قطر والمغرب وبعض الدول الأخرى تصر على تبني النهج الغربي في إبقاء فكي الكماشة من حصار خانق وعزلة دبلوماسية على سورية.
٣ – في 21 أيلول من العام ذاته شهدت العلاقات السورية الصينية تطوراً ملحوظاً بعد الزيارة التاريخية التي أجراها الرئيس بشار الأسد إلى الصين وتوقيعه ثلاث اتفاقيات إستراتيجية بلورت معالم الإرادة السياسية الثنائية في التوجه نحو تطوير العلاقات الثنائية ما بين الجانبين في إطار تحقيق المصالح المشتركة ومواجهة الغطرسة الغربية وسعيها للحفاظ على الهيمنة القطبية، وهذه الزيارة كانت انعكاساً لرغبة الصين في كسر العزلة عن سورية إلى جانب توجهها للعب دور في حل الأزمة السورية بعد توطيد علاقاتها مع الدول العربية ونجاح دبلوماسيتها في حل الخلاف السعودي الإيراني، كما أن بكين التي استشعرت الخطر بعد الإعلان عن مشروع الرئيس الأميركي جو بايدن أو ما عرف بـ«الممر الهندي الأوروبي» أرادت الانفتاح على الجغرافيا السورية لتحقيق مصالحها في الاستفادة من سورية الجغرافيا والمطلة على المتوسط لكي تكون واجهة بحرية لها باتجاه المتوسط وأوروبا ولاسيما بعد الاستعداد الأميركي لإغلاق الحدود السورية العراقية، وتأييد إسرائيل لمشروع بايدن وعدم ضمان الموقف التركي من الحزام والطريق.
– الساحة الإقليمية مرت بدورها في العديد من التطورات التي أرخت بظلالها على العلاقات القائمة وساهمت بتغيير الاصطفافات في طبيعة هذه العلاقات ودفعت بشكل أو بآخر لتغيير محددات السياسات الخارجية للدول وتبدلها بما يتلاءم مع تطورات المرحلة ولعل أهم هذه التطورات تكمن في حدثين مفصليين:
١- نجاح الدبلوماسية الصينية في إحداث خرق بجبل الجليد الذي كان سائداً في العلاقات السعودية الإيرانية، حيث شهدت العاصمة بكين مطلع شهر آذار التوقيع على الخطوط الأولى والعريضة لافتتاح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية ما بين الجانبين، ومما ساهم في نجاح الدبلوماسية الصينية وجود عوامل عدة أبرزها تنامي العلاقات الصينية مع دول المنطقة بما جعلها تمتلك أدوات تأثير مختلفة استناداً للمصالح الاقتصادية المتبادلة، وانشغال الولايات المتحدة الأميركية في تصعيد سلوكها تجاه روسيا في الساحة الأوكرانية وتجاه الصين في تايوان وجنوب آسيا، ووصول كل من طهران والرياض لقناعة مفادها أن الصراع والتصعيد ما بين الجانبين سيزيد من اختلال التوازن الإقليمي لمصلحة تركيا.
٢- فلسطين الثكلى والتي أبى عام 2023 أن يسدل ستاره دون أن تستمر معاناة الشعب الفلسطيني عموماً وأهالي غزة بشكل خاص أمام حالة من صمت المجتمع الدولي ومنظماته الدولية العاجزة عن وقف الاعتداء الفاشي اليميني لحكومة العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتطرفة، إذ شهدت الأراضي المحتلة تطوراً ملحوظاً في الصراع مع الكيان الإسرائيلي بعد تمكن المقاومة من تحقيق إنجاز بطولي نوعي في فجر السابع من تشرين الأول والذي أعاد البوصلة إلى اتجاهها الصحيح.
– على حين شهد الملف الدولي استمراراً للصراع المحتدم ما بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين من جانب وروسيا الاتحادية والصين وحلفائهما من جانب آخر، وأبرز صور هذا الصراع تجلت في:
١ – استمرار إغداق السلاح والدعم اللوجستي والبشري على أوكرانيا بهدف استهداف الأمن القومي الروسي.
٢ – صراع التكتلات والتحالفات المتبلورة على الساحة الدولية والتي برزت في نجاح تكتل البريكس لضم حلفاء جدد ضمن صفوفها ضمن القمة التي عقدت في عاصمة جنوب إفريقيا جوهانسبيرغ في شهر آب الماضي، قبل أن تسارع الولايات المتحدة الأميركية لاحتواء مشروع التنين الصيني بطرح مشروع الممر الهندي الأوروبي في قمة العشرين التي استضافتها نيودلهي عاصمة الهند في أيلول الماضي.
بالعموم، يمكن التأكيد أن الأزمات التي استمرت في عام 2023م أو نشبت خلاله، تم ترحيلها للعام الجديد، إلا أن الواقع والمؤشرات التي يتبناها رواد المدرسة الواقعية تفرض حقيقة لا مفرَّ منها والتي تتجلى بأن هذا العام الجديد وخاصة النصف الأول منه لن يشهد خروقات جدية في حل الأزمات والصراعات الدولية ويمكن الاستناد لهذه المقاربة التي لا يمكن اعتبارها تشاؤمية بقدر ما يمكن تصنيفها بأنها واقعية لمروحة من المؤشرات:
المؤشر الأول يكمن في اقتراب انتخابات الرئاسة الأميركية والتي تشهد تراجع شعبية الرئيس الديمقراطي بايدن لأدنى مستوياتها وفق استطلاعات الرأي والتي وصلت لحد 39 بالمئة فقط، نتيجة إخفاقه في تحقيق أي انجاز في الملف الأوكراني ضد روسيا وضد الصين الشعبية في المنافسة الاقتصادية إلى جانب الدعم اللامحدود للكيان الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزة، وبالتالي فإن العام الأخير لإدارة بايدن لن يتيح تقديم أي تنازل من شأنه أن يعتبر إنجازاً لمصلحة موسكو أو بكين أو طهران في أي من ملفات الاشتباك، وهو ما يجعل كل آفاق الحلول السياسية مغلقة أو هشة غير قابلة للحياة قبل بروز نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية.
المؤشر الثاني السعي نحو تأزيم الأزمات في ساحات الصراع لتحقيق مكاسب جيوإستراتيجية، ومعظم هذه الأزمات هي قابلة للانفجار في حال الخروج عن قاعدة حسابات «ميزان الذهب» في اتخاذ القرارات سواء كان ذلك فيما يتعلق بأوكرانيا أم فلسطين المحتلة أم سورية أم البحر الأحمر أم الخليج العربي.
المؤشر الثالث عدم قيام المنظمات الدولية بمسؤولياتها وفقدانها للاستقلالية نتيجة انقسام نفوذ الصراع داخلها بفعل الجغرافيا التي تحتويها أو عامل التمويل المؤثر، وهو ما يجعل قاعدة آلية التعاون الدولي لحل الأزمات غائباً.
المؤشر الرابع احتدام السباق في بلورة تحالفات وتكتلات تقليدية وغير تقليدية كبريكس ومجموعة العشرين وطرح مشاريع جيو إستراتيجية اقتصادية وغيرها مثل «الحزام والطريق» و«الممر الهندي الأوروبي» وهو ما يجعل هذا الاحتدام بمنزلة كباش دولي في ظل عدم تبلور هذه التكتلات أو وضوح شكل وطبيعة النظام الدولي وغياب الاتفاق الدولي على هذا الشكل.
هذه المؤشرات الأربعة وغيرها من المؤشرات التي تتضمن تعزيز اللجوء لحروب الوكالة واستخدام الإرهاب ضمن أدوات السياسة الخارجية وكأحد وسائلها العابرة للحدود الجغرافية واحتكار التكنولوجيا والمسعى لاحتكار الممرات الدولية ومصادر الطاقة وتبادل الاتهامات فيما يتعلق بتردي أوضاع المناخ وغيرها لكثير من الملفات، تؤكد أن عام 2024 لن يكون سوى عام استقبال الأزمات وقد يكون عام تصعيد الأزمات.
كاتب سوري