«عندما يكون المبدع في القاع يجب قلب العالم رأساً على عقب».
في أواسط القرن الماضي أطلق الروائي والرسام الأميركي هنري ميللر هذه العبارة- الصرخة، في كتابه المدهش «رامبو وزمن القتلة». والحق أن هذه العبارة لم تكف عن الرنين في رأسي منذ أن سمعت نبأ رحيل المبدع السوري الكبير نوري إسكندر في مغتربه بالسويد، يوم الخامس والعشرين من كانون الأول الماضي.
لم يكن نوري إسكندر يطيق الغربة، بل كان يؤمن أن المبدع كالشجرة عندما تنزع جذوره من أرضه يكون منذوراً للموت ولو بعد حين. لكنه لم يكن فناناً تاجراً ممن يعرفون فنون التملق والاستلزام، لذا عاش حياة أقرب إلى حياة الرهبنة، إذ تفرغ طوال ثمانية أعوام لدراسة التراث الموسيقي السرياني من مدرسة الرها ومدرسة دير الزعفران، فجمع قرابة تسعمئة لحن كانت مهددة بالضياع، ثم قام بتنويطها وإصدارها ضمن كتابين ضخمين، أطلق عليهما اسم «كنز الألحان»، وهو كنز حقيقي يمكن لموسيقيي اليوم وغداً، أن يتمثلوا جمالياته ويستفيدوا منها.
خلال عمله في جمع التراث الموسيقي السرياني وتنويطه، اكتشف نوري إسكندر أن هذا التراث «لم يكن دينيًا صرفًا، بل استند في أنغامه إلى الموسيقا الشعبية في المنطقة. كما تأثرت به الموسيقا الإسلامية والأغاني الشعبية في مجمل المنطقة، ومنها المواويل والعتابا والميجانا».
واظب نوري إسكندر مع صديقه عازف العود محمد قدري دلاّل على حضور الأذكار والموالِد في جوامع حلب مدة عشر سنوات، وتوصلا معاً إلى أن «الموسيقا الدينية الإسلامية هي امتداد للموسيقا السريانية، مع تطويرها وزيادة الصيَغ الفنية فيها»، وقد تجلى هذا في عمله الصوفي «يا واهب الحب».
لم يكتف المبدع الكبير نوري إسكندر بإنقاذ كنوز الماضي بل عمل على تثوير المقامات الشرقية لكي تستطيع التصدي لتحديات العصر، فألف «كونشيرتو العود» و«كونشيرتو التشيللو» و«الثلاثي الوتري». في أعماله هذه قام نوري إسكندر بعملية تطويع مزدوجة باتجاهين، فقد طوَّع المقامات الشرقية كي تناسب الأشكال الموسيقية الغربية، كما طوع الأشكال الغربية كي تتقبل الأنغام الشرقية بعيداً عن تقاليد النسخ واللصق، وهو إنجاز فريد يشكل إضافة نوعية للتراث الموسيقي العالمي.
أطبقت الحربُ الظالمة التي شنتها الفاشية العالمية وأدواتها، على الوطن السوري، بِليلِها على صدر المبدع الكبير، وفرضت عليه حصاراً مزدوجاً، اضطره في عام 2014 لبيع البيانو الذي هو أداة عمله، لكي يؤمّن أجرة البيت والدواء لابنته، وعندما لم يبقَ لديه ما يبيعه، هاجر!
أعتقد أن ما فعله نوري إسكندر للموسيقا السورية، لا يقل أهمية عما فعله أسطورةُ الموسيقا الأرمينية كوميداس الذي جمع الألحان الشعبية في أرمينيا ونوَّطها وحَماها من الضياع. صحيح أن الظروف المعيشية والصحية لم تمكن نوري إسكندر من إنجاز الكثير من مشاريعه الإبداعية، لكن ما أدخله من تجديدات على المقامات الشرقية يشبه ما قام به بدر شاكر السياب من تثوير لبحور الشعر وتجديدها، وما أنجزه على صعيد الإبداع الموسيقي يقارب ما أنجزه عملاق الموسيقا العربية السيد درويش!
أقترح وأطالب الفرق الموسيقية السورية بإقامة حفلات لتراث هذا المبدع الفذ، كما أقترح وأطالب أن تقوم دار أوبرا دمشق بإعادة إصدار كل ألبوماته الموسيقية على أقراص لوضعها بين أيدي المهتمين. وأخيراً أطالب بتشكيل لجنة من خبراء الموسيقا للعمل مع ابنة الفقيد الكبير عازفة الكمان سوسن إسكندر لدراسة كل ما خلفه هذا المبدع الفذ من تراث موسيقي. لقد ظلمنا نوري إسكندر في حياته فدعونا ننصفه قليلاً من خلال إيصال عطر روحه إلى الناس!