الروائية الجزائرية «أحلام مستغانمي» وأحدث إصداراتها: «أصبحت أنت» … نحتاج إلى الماء وعندما يذهب المذاق نطلب المزيد منه
| هبة الله الغلاييني
أحدثت الروائية الجزائرية ضجة إعلامية كبيرة، بثلاثيتها الشهيرة (ذاكرة الجسد)، والتي حصلت فيها على جائزة نجيب محفوظ و( فوضى الحواس)، و(عابر سرير)، ثم توالت رواياتها التي حققت شهرة كبيرة، مثل (نسيان دوت كوم) و( الأسود يليق بك) وغيرها.
عام ٢٠٢٣، خرجت علينا بسيرة روائية عنوانها (أصبحت أنت) تفوق ثلاثمئة صفحة تقريباً.
أهدت الكاتبة هذه السيرة الروائية إلى أمها قائلة:
( أمي، أهديك هذا الكتاب، مطمئنة أنك لن تقرئيه، ولن تحاسبيني عما جاء فيه، اعتبريه هدية متأخرة من أبي، فلا تواصلي معاتبته «هناك». برغم كل شيء، لقد أحبك…).
أحلام مستغانمي كاتبة تخفي خلف روايتها أباً لطالما طبع حياتها بشخصيته وما من شك في أن مسيرة حياته التي تحكي تاريخ الجزائر وجدت صدى واسعا عبر مؤلفاتها.
في روايتها (أصبحت أنت)، تخلد أحلام ذكرى والدها، محمد الشريف، والذي كان من هواة الأدب الفرنسي، وكانت لديه القدرة على سرد الكثير من القصص عن مدينته الأصلية مسقط رأسه (قسنطينة)، مع إدماج عنصر الوطنية وتاريخ الجزائر في كل حوار يخوضه، وذلك بفصاحة فرنسية وخطابة نادرة.
التوثيق والتاريخ
وثقت الكاتبة في روايتها الخاص من زاوية التاريخ، وجعلت القارئ يرافقها إلى تلك الفترة، ويعيش بعض التفاصيل التي ذكرتها، خاصة فيما يتعلق بأحداث مضت من تاريخ الجزائر، لربما نتعرف ونحن نقرأ على بعض الأحداث. لكن هذا العمل يجعلك لا تتوقف عند هذا الحد، بل تبحث في كل ما قرأته سابقا، قد نعرف الكثير من الشخصيات التي ذكرتها مستغانمي، ولا شك قرأنا عن كل واحدة منها ما قرأنا، لكن الكاتبة استحضرت تلك الشخصيات التاريخية وأخرى انطلاقا من البعد الشخصي، للحديث عن أبعاد وطنية شكلت تداخلا بين سيرة أحلام وسيرة الجزائر.
ومن المهم أن نشير إلى نقطة لافتة تحدثت عنها الكاتبة في سيرتها هذه، وهي كيف حوربت كشابة عندما كانت تقدم برنامجا إذاعياً شهيرا في ذلك الوقت، يبث ليلا، يحمل عنوان «همسات»، وكل ما صادفته من عراقيل في بداية طريقها كطالبة متفوقة منعت من إتمام دراستها العليا، رغم أنها كانت ضمن أول دفعة معربة في الجزائر المستقلة.
هل حوربت لأنها أول فتاة تكتب باللغة العربية؟ أم إنها حوربت لأسباب أخرى تتعلق بأسرتها ووالدها؟
الكتابة والدهشة
حين ينهي القارئ هذه السيرة الذاتية سيكتشف كل هذا وأسباب أخرى شكلت شخصية أحلام مستغانمي الأديبة التي حازت الدكتوراه من جامعة السوربون، تحت إشراف شيخ المستشرقين جاك بيرك، نالت الدكتوراه لكنها لم توقع يوما بذلك اللقب الأكاديمي لأنها أرادته هدية لأبيها وحده. والدها الذي تخاطبه في سيرتها هذه قائلة: « كل كتاباتي كانت تنقصها دهشتك، كل نجاحاتي كان ينقصها زهوك. أي شقاء أن تكتب للقارئ الوحيد الذي لن يقرأك».
وعودة إلى رمزيات النص، فإن للحمام على سبيل المثال في هذه السيرة وظيفة الشخصية الروائية التي عليها أن تقول شيئا في الأخير. فهي عادت بالذاكرة إلى لحظات الاستقلال، ما بين دخول الثوار إلى العاصمة أو ما أسمته بفيلم مثير تحت عنوان « الاجتياح الكبير» وعودة الفرنسيين إلى فرنسا، أو ما عبرت عنه على أنه مسلسل كبير بعنوان « الهجرة الكبرى»، ذكرت الحمام الذي كان شاهدا من وجهة نظرها على التاريخ تقول: « تأملاتي الأولى حول الحرية، تشكلت وأنا أتأمل الحمام. ».
مرض والدها
وعندما دخل والدها المصحة، كانت تأخذ لوالدها حلوى «الميل فاي»، أو «ذاكرة الزمن الصعب» على حد تعبيرها وعن طعم هذه الحلوى يقول والدها «تدرين… الإشكالية في كل ما هو حلو، هي أننا حال الانتهاء منه نحتاج إلى الماء، وعندما يذهب المذاق، نريد المزيد منه».
سيتوقف القارئ عند تحايل والدها على الطبيب الفرنسي بذكاء وكبرياء، حتى لا يعرف ذلك الطبيب أن ما أوصله إلى المصحة هو الجزائر، أي إنه مرض بسببها. هنا تبين كيف يخفي الرجل الحر مأساته الحقيقية عن الآخرين، حتى إنها أعادت روائيا كتابة رسائله، واستحضرت حتى حماسة تلك الليالي التي كان يقضيها ساهرا لأجل بلاده، وكيف يدرس كل عاملة تأتي إلى البيت لإيمانه بقدرة التعليم على إحداث الفارق الحقيقي في حياة البشر، إذ تروي في سيرتها هذه ما كانت تعنيه المكتبة لوالدها، المكتبة التي بسببها فقدوا كل مدخراتهم.
تقول: «كنت تحب الكتب كما رجال زمنك، وكانت أمي تحب المظاهر كما هو المجتمع اليوم، أما أنا فكنت أحبك، كما كل البنات المفتونات بآبائهن».
وعن المكتبة تقول: «تلك المكتبة تختصر شخصية عائلتنا فردا فردا، كما تختصر ما آلت إليه الجزائر جيلا بعد جيل».
وللتاريخ العربي مكان
في هذه السيرة الذاتية نقرأ عن مصر والمرحلة الناصرية، وعن عبد الحليم حافظ، إذ يكتشف القارئ أنها توثق بذكاء لتاريخ الجزائر انطلاقا من عدة تواريخ وأحداث متداخلة وصمت تلك الفترة.
في السيرة الكثير من الإشارات لجرائم فرنسا ضد الجزائريين أقلها ضررا الألقاب السيئة التي منحتها فرنسا للجزائريين، وتلك الألقاب كان فيها بتعبير مستغانمي «اغتيال معنوي للإنسان الجزائري». وذكرت في السيرة ثلاث فرنسيات، كل واحدة منهن تمثل نوعاً معيناً من الفرنسيين.
هناك الفرنسية التي لم تغفر للجزائريين استقلالهم، والفرنسية التي حاولت أن تعيش مع الجزائريين، لكنها لم تستطع. والفرنسية التي خافت وغادرت.
تستحضر مستغانمي أيضاً الفرنسيين الذين كانوا مع الجزائر حتى إنهم عذبوا وقتلوا من أجلها، وهؤلاء يجب ألا يسقطوا من الذاكرة أبداً.
وفي نهاية الكتاب تتساءل حين تصادف فرنسا هل هو مثل الطبيب الفرنسي الذي كان يعالج مجانين فرنسا والجزائر معا؟ أم إنه مثل الفرنسي الذي قتل الجزائريين كزوج مدام كوزيت؟ أم تراه مثل الفرنسي الذي ضحى بحياته من أجل القضايا الإنسانية العادلة أمثال ايفتون؟ وغيرها من التساؤلات.
المتعة السردية
حين تقرأ كتاب (أصبحت أنت) لن تصبح كما كنت، وهنا تكمن المتعة السردية في هذه السيرة الروائية التي جمعت بين الشخصي والأدبي، بين السياسي والعاطفي، وبين الواقعي والاجتماعي، وهي التي تقول «صغيرة وقعت في قبضة التاريخ، أصعب من الوقوع في الحب، الوقوع باكراً في إرث الذاكرة».
من أهم الاقتباسات من هذه السيرة الذاتية:
«بعدك أصبحت أنت. أعدت اقتراف كل حماقاتك، خسرت بسخاء، وبسخاء تهكمت على خساراتي. أكرمت أعدائي لأن لا قصاص أكبر من الكرم. أحببت الحياة كما لو كانت رجل حياتي، لأنك أحببتها كما لو كانت أنثاك. وضعت شرطا لقلبي ألا يحب إلا رجال المواقف، لأن الحب عندك كان قضية. لم أسأل يوماً أحداً عن ديانته، لأنك لم تسألني يوماً إلا عن أخلاق من عرفت».