كان من المقدر وفقا للتصريحات الصادرة عن «كابينيت الحرب» العبور إلى المرحلة الثالثة من العدوان مطلع شهر كانون الأول، في تتمة لمرحلته الأولى البادئة يوم الـ 7 من تشرين أول والثانية في 27 من الشهر عينه، لكن ما جرى هو أن الفعل جرى تأجيله إلى أواخر هذا الشهر الأخير لاعتبارات لا يبدو أنها تعود للمعلن منها، فالمرحلتان السابقتان، الأولى والثانية، مضتا من دون تحقيق أي إنجازات تذكر، فلا «تحرير عدد كبير من الأسرى الإسرائيليين» قد تحقق، ولا «تدمير البنية العسكرية لحماس وصولاً إلى إنهاء وجودها» قد أضحى بالمتناول، ولذا فإن الإعلان الذي جرى أواخر العام الفائت بالعبور إلى المرحلة الثالثة من الحرب لا يبدو نتاجاً، أو تطوراً طبيعياً، في سياق الخطة الموضوعة من قبل «الكابينيت» لتحقيق الأهداف المعلن عنها عشية انطلاق العدوان الذي دخل شهره الثالث.
المرحلة الثالثة تعني انتقال الضغط العسكري إلى جنوب قطاع غزة، وتحديداً إلى خان يونس التي يعتقد أنها تمثل مركز الثقل التنظيمي والعسكري لحركة حماس، والاعتقاد إياه يمضي إلى تقدير مفاده أن قادة هذه الأخيرة باتوا متمترسين فيها، ولذا لم يكن مفاجئاً أن يذهب الجيش الإسرائيلي عشية إعلانه الانتقال للمرحلة الثالثة من العدوان إلى إلقاء منشورات تدعو الفلسطينيين لـ«التعاون» معه لأجل «تقديم المعلومات التي تمكننا من القبض على الأشخاص الذين جلبوا الدمار والخراب للقطاع»، والمنشور الذي ألقي يوم الـ15 من كانون الأول المنصرم كان بعنوان لافت وهو لا يخفي مراميه الذاهبة نحو فك الارتباط ما بين فصائل المقاومة الإسلامية وبين حاضنتها الشعبية، وهو يقول: «يا أهل غزة.. لقد فقدت حماس قوتها، لم يتمكنوا من قلي بيضة، نهاية حماس باتت قريبة».
ما تشير إليه المعطيات العسكرية المتمثلة بالإعلان عن نقل فرقة وأربعة ألوية إلى الجنوب عشية الإعلان عن المرحلة الثالثة، وكذا السياسية المتمثلة بالمحاولة سابقة الذكر لفصم عرى الارتباط ما بين الجغرافيا (الأرض) وبين التاريخ (البشر)، وكذا الفصل، داخل هذا الأخير، ما بين الحاضنة وبين أبنائها الذين أثبتت الوقائع أنهم يمثلون النتاج الطبيعي لها ولآمالها وأمانيها، هو أن إسرائيل اليوم باتت أمام خطوط دفاع أخيرة ثلاثة أولها عسكري وثانيها وظيفي أما ثالثها فهو نفسي، والمؤكد هو أن هذا الأخير هو بدرجة كبيرة وخطورته لا تقل عن سابقيه وإن كانت مفاعيله تحتاج لوقت أطول منهما لكي تخرج إلى السطح، وعليه فإن المعركة التي تدور في خان يونس سوف تحدد وإلى درجة بعيدة النتائج السياسية للحرب وإذا ما استطاعت المقاومة تثبيت المعادلات التي فرضتها في شمال القطاع خلال 80 يوماً من الحرب فإنها ستعطي لنفسها اليد الطولى في المفاوضات الجارية راهناً في القاهرة للوصول إلى اتفاق ما قد ينتج هدنة تقول تقارير إنها قد تمتد لشهر، في حين تقول أخرى إنها قد تكون لفترة أطول ولربما دائمة، والراجح هنا هو أن تعثر تلك المفاوضات كان قد جاء على وقع استمهال إسرائيلي يريد جس النتائج التي ستفضي إليها الاحتكاكات الأولى في خان يونس.
من الصعب الآن القول: إن المرحلة الثالثة سوف تجري في السياقات نفسها التي جرت فيها سابقتاها، والراجح هنا أنه يمكن الاستناد إلى مؤشر مهم للَحْظِ المتغيرات التي ستلعب دوراً محدداً في مجرياتها، فقبيل انقضاء العام بيومين أعلن «البنتاغون» الأميركي عن أن «حاملة الطائرات جيرالد فورد سوف تغادر الشرق الأوسط خلال الأيام القليلة المقبلة عائدة إلى مينائها الأصلي بولاية فرجينيا»، والفعل إذ يمكن أن تكون له العديد من المدلولات فإنه يشير أولاً إلى رسالة أرادت واشنطن من خلالها القول: إن إعطاء المزيد من الوقت لـ«الجنون» الإسرائيلي يعني بالضرورة دفع «الفواتير» من الأرصدة الأميركية في المنطقة، وأن الوقت الآن ليس لفعل من هذا النوع بل هو لترميم الأضرار الأميركية التي تسببت بها الحرب الإسرائيلية على غزة خصوصاً أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قد دخلت «عامها الانتخابي» الذي ستصبح فيه، بدءاً من مطلع الصيف القادم، مقيدة باعتبارات وخيارات قد تكون مختلفة جذرياً عما كانت عليه زمن الأعوام الثلاثة الماضية.
ثمة إشارات أميركية جرى إرسالها إلى تل أبيب في غضون الشهر الثالث للحرب وجميعها تريد القول: إن الأخيرة ستكون في موقع حسابي خاطئ إذا ما اعتقدت أن الضوء الأخضر الأميركي الممنوح لها لكي تمارس شتى أنواع التدمير والقتل منذ الـ7 من تشرين أول المنصرم سوف يظل كذلك إذا ما مضى هذان الفعلان الأخيران في رسم أخاديد من شأنها التمهيد لإشعال نار إقليمية ستصيب، أكثر ما تصيب، المصالح الأميركية فيها.
كاتب سوري