أصيبت معظم الدوائر العربية بالخيبة إن لم نقل بالصدمة، خصوصاً تلك المطبعة مع الكيان الصهيوني، وذلك على إثر نجاح ثلة من رجال المقاومة الفلسطينية في غزة تنفيذ عملية «طوفان الأقصى»، والتي ضربت أساسات الكيان الصهيوني وأفقدته ثقة العرب قبل الغرب بأجهزة مخابراته وبقوة ردعه، الأمر الذي أدى إلى انكشاف وهن اجهزته الأمنية وضعف في جبهته الداخلية، ترافق مع إرباك ملحوظ على المستويين السياسي والعسكري، حصل بظرف ساعات فقط.
عرب التطبع أولئك الذين تعمدوا القفز فوق الحقوق الفلسطينية، فضلوا الانحراف عن الحق العربي في فلسطين، وتنكروا للهوية العربية، فانحرفوا صوب تطبيع العلاقات مع الكيان المحتل لفلسطين، لكن عملية «طوفان الأقصى» وما تلاها من صمود واستبسال أسطوري للمقاومة الفلسطينية في ساحات القتال بغزة، واستمرارها بإطلاق الصواريخ إلى عمق الكيان، وشن الهجمات المتقنة والمبتكرة، لثلاثة أشهر من دون توقف، وتمكنها من قهر الجيش الذي لا يقهر، ونجاحها في منع الكيان الصهيوني في تحقيق أي من أهدافه المعلنة، أظهر لهؤلاء العرب، أن إسرائيل عبارة عن بعبع أوروبي- أميركي صنع خصيصاً لتخويف العرب وللسيطرة على أمة بكاملها، بعدما روّج لهذا البعبع إعلامياً بأنه القوة العظمى في المنطقة، وبأن إسرائيل بقوتها الاستخباراتية والتكنولوجية والعسكرية، يمكن لها أن تشكل الضامن لأمن واقتصاد تلك الدول المطبعة معها.
لكن إسرائيل القوية عسكرياً وتكنولوجياً، واجهت مصاعب حقيقية خلخلت أسس قوتها، وأصابها إرباك ملحوظ كشف وهن القيادتين العسكرية والسياسية فيها، خصوصاً بعد نجاح عملية «طوفان الأقصى»، وعجز قياداتها عن مواجهة ارتدادات العملية العسكرية الفلسطينية، الذي تُرجم بمنع إسرائيل من تحقيق أي انتصار واضح وحاسم، على قوة لا تزيد عن بضعة آلاف من المقاومين الأشاوس.
المعلق الأمني لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية يوسي ميلمان كتب مقالاً قال فيه: إن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وافق في العام 2014 على خطة للقضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة، مقابل تطبيع وسلام مع دول عربية كثيرة، لكن نتنياهو نفسه سرعان ما تردد في تنفيذها في ذلك الوقت، لأن نتنياهو أراد الحصول على التطبيع مع العرب أولاً ثم الانتقال إلى مرحلة القضاء على المقاومة، وذلك لضمان التأييد والسكوت العربي، على جرائم إسرائيل، مشيراً إلى أن تلك الخطة وضعت في وقت كانت إسرائيل بنظر دول المنطقة قوة عظمى، بيد أن ما تفعله الآن أظهر أن إسرائيل وعلى كل الصعد، أضعف بكثير مما كانت في 2014.
منذ الأسبوع الأول لحرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة، صرح نتنياهو بأنه أجرى اتصالات عدة مع شركائه العرب، وأطلعهم على نية إسرائيل إقامة مناطق عازلة داخل غزة، بيد أن مجريات الحرب عكست صورة عجز نتنياهو وجيش الكيان عن تحقيق ذلك، والدليل أن مستعمرات غلاف غزة وشمال فلسطين على الحدود مع لبنان، انتقلت إلى عمق الكيان وشكلت مناطق عازلة في داخله وليس في عزة.
ضغوط أميركية فرنسية وأوروبية وحتى عربية تمارس على لبنان، تارة بالترغيب وتارة أخرى بالتهديد، لتنفيذ القرار 1701، والهدف إبعاد المقاومة اللبنانية إلى شمال نهر الليطاني، فيما التهديدات الإسرائيلية أخذت منحى اكتمال الاستعدادات لشن حرب على لبنان، بهدف إبعاد قوات الرضوان إلى ما بعد نهر الليطاني شمالاً وبالقوة ولو كلف ذلك حرباً شاملة.
بيد أن التهديد الإسرائيلي شيء والتنفيذ شيء آخر، لا بل صعب المنال، فمن عجز عن تحقيق أي انتصار في غزة المحاصرة، لن يكون باستطاعته تحقيق أي إنجاز ضد المقاومة اللبنانية التي تمتلك من الخبرة والصواريخ الدقيقة ما لم تملكه المقاومة في غزة، خصوصاً إذا ما أخذنا بالاعتبار دخول اليمن على خط المواجهة ضد السفن التي تحمل إمدادات إلى الكيان الصهيوني، انطلاقاً من ممر باب المندب في البحر الأحمر، إضافة إلى الخسائر الفادحة التي تصيب جيش العدو الإسرائيلي في كل يوم وكل ساعة على جبهتي جنوب لبنان وغزة.
إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى، صارت عبارة عن كيان وهن وأساساته متصدعة يصعب ترميمها، فيما ترسيخ انتصار محور المقاومة صار واقعاً، لكن المأساة لا تكمن في الخسائر البشرية والتهديم الممنهج ومحاولات التهجير الطوعي والقسري للفلسطينيين، بل إن المأساة الحقيقية تكمن بأن هذا الانتصار لم يجد حتى الساعة، أي جهة عربية تتبنى موقفاً من شأنه استثماره، لإعادة ترتيب الأولويات والأوراق لمصلحة العرب والفلسطينيين في المنطقة، والخوف كل الخوف أن تبقى أوراق المنطقة بيد الأميركي كما سبق، أي بيد الكيان الصهيوني الوهن، وأن تذهب كل تضحيات محور المقاومة من غزة إلى لبنان واليمن والعراق لمصلحة التخاذل والتآمر العربي الفاضح.
بالأمس أعلنت حكومة جنوب إفريقيا نصرتها للإنسانية وللحق الفلسطيني، وكشفت عن عروبتها ولو أنها لا تنطق العربية، وذلك بعدما رفعت للمحكمة الجنائية الدولية شكوى، من أجل التحقيق في جرائم حرب، ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، في حين لم تتجرأ أي جهة عربية أو إسلامية وحتى ما يسمى بجامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي ولا حتى أي من الدول المسماة عربية والناطقة بالعربية، على تقديم شكوى مماثلة إلى محكمة الجنايات الدولية لمحاسبة إسرائيل على ارتكابها جرائم حرب وإبادة جماعية وممارسة التهجير القسري والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
ثبت لدينا أن عروبة جنوب إفريقيا متأصلة في الدفاع عن حق وحرية الإنسان العربي الفلسطيني، فيما معظم العرب كأنظمة، عبارة عن بعبع من صنع بريطاني- فرنسي- أميركي، تأصّل في قمع الشعب العربي، وهو بعبع منزوع الإرادة والقرار، مجرد من الإنسانية، متأصل في التخاذل والتآمر على الحق العربي والفلسطيني، لمصلحة من صنعه ونصّبه.
رئيس ندوة العمل الوطني- لبنان