دفع «الفشل الاستراتيجي» الذي لحق بالكيان الصهيوني، قادته إلى الهروب نحو الجحيم، والضرب خبط عشواء على جبهات المواجهة في قطاع غزة مع المقاومة الفلسطينية، وعلى جبهة الشمال مع المقاومة اللبنانية، مروراً بالضفة الغربية والتي بدأت فيها مواجهات، يحذر المستوى العسكري في الكيان من انفجار الوضع فيها وتحولها إلى جبهة أخرى للحرب.
يمكن قراءة التخبط التكتيكي لقادة الكيان الصهيوني، وإضاعتهم بوصلة السيطرة، وعجزهم عن استعادة زمام الأمور وإعادة الوضع إلى ما قبل «طوفان الأقصى»، على أكثر من مستوى، ويمكن حصره في ثلاثة أمور، الأول شخصي يتعلق برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، والثاني مرتبط بالهزيمة التي تكبدها جيش الاحتلال على جبهات المواجهة جنوباً وشمالاً، والثالث حجم الضغوط الخارجية خاصة من الولايات المتحدة الأميركية، لا لجهة وقف العدوان بل لجهة إدارته ونوع التكتيكات المستخدمة فيها.
في المستوى الأول، يظهر التباين الكبير بين الموقف السياسي والعسكري داخل الكيان الصهيوني، ففي الوقت الذي يصر فيه رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو على المضي قدماً في حربه العدوانية، وبلوغ الأهداف عالية السقف التي أعلنها في بداية العدوان قبل 95 يوماً، من تدمير وتفكيك حركة حماس إلى إعادة الجنود الأسرى، يؤكد المستوى العسكري ونتائج الميدان، استحالة تحقيق تلك الأهداف، وبأن لا بد من إيجاد طريقة ما للنزول من على أعلى الشجرة، الأمر الذي أكده رئيس هيئة الأركان العامة لجيش الاحتلال السابق، دان حالوتس، باعترافه أن إسرائيل خسرت الحرب ضد حماس، مؤكداً أن صورة النصر الوحيدة التي ستتحقق هي إسقاط نتنياهو، قائلاً: «لن تكون هناك صورة نصر، لأن الصورة هي صورة خسارة 1300 قتيل، و240 أسيراً، منهم من أعيدوا، وفشل نحو 200 ألف لاجئ في العودة إلى منازلهم»، كلام حالوتس، حقيقة يعيها رئيس وزراء الكيان تماما، وهو ما دفع به أكثر إلى المضي قدماً في العدوان، بل العمل نحو توسيع رقعة الحرب خارج فلسطين المحتلة، لإيمانه أن كل يوم آخر في العدوان هو يوم إضافي في حياته السياسية، ويوم آخر خارج قضبان السجن، فهو يعي جيداً من خلال مواقف خصومه، واستطلاعات الرأي أن بقاءه مرتبط باستمرار الحرب، حيث خرجت ثلاث تظاهرات في داخل الكيان، للمطالبة بانتخابات فورية، واستقالة نتنياهو، ليتقاطع ذلك مع دعوات المعارضة الرسمية إلى إجراء انتخابات مبكرة والإطاحة بحكومة نتنياهو، وفق ما طالب به كل من رئيس «هناك مستقبل»، يائير لبيد، وزعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان.
وعلى صعيد المستوى الثاني، فإن الإرباك الذي يجتاح قادة الكيان الصهيوني، وخاصة العسكريين منهم، هو نتاج يقينهم أن لا إمكانية للنصر من خلال الحرب، وأن انخراط حزب الله بقوة أكبر في الحرب شمالا، سيأخذ الأمور إلى ضفاف ليست في حسبان قادة العدو الإسرائيلي، خاصة إذا ما دفعت حماقات نتنياهو وقادته العسكريين إلى الدفع بحزب الله للذهاب إلى معركة مفتوحة بلا ضوابط أو سقوف كما أكد الأمين العام للحزب حسن نصرالله، مع تأكيد تقييم استِخباراتي أميركي جرى تقديم نسخة منه إلى الرئيس جو بايدن يؤكد: «أنه سيكون من الصّعب على إسرائيل أن تنتصر في أي حرب ضد حزب الله في ظل انخراطها حالياً في حرب غزة».
سلسلة الإرباكات الاستراتيجية دفعت الكيان الصهيوني إلى التخبط في التكتيك، دون إجراء حسبة دقيقة للنتائج المحتملة، فعملت على التصعيد داخل الأراضي اللبنانية، عبر سلسلة من عمليات الاغتيال التي طالت قادة في حماس وحزب الله ومدنيين، وذلك في محاولة منها لإعادة قوة ردع مسحوقة، وإعادة ثقة المستوطنين في الشمال، بعد أن حول فعل حزب الله المقاوم المستوطنات هناك إلى تجمعات للأشباح، الأمر الذي أكده وزير الحرب الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان بقوله: «أرض الشمال تهتز».
ثالثا، في ظل عجز الكيان عن تحقيق أي هدف من عدوانه، وتكبده خسائر اقتصادية وعسكرية كبيرة، شكل الضغط الأميركي وخلاف إدارة الرئيس بايدن مع نتنياهو، ولو شكلاً، في كيفية إدارة الحرب وطريقتها ومستواها، عنصرا جديدا على حالة الإرباك التي يعيشها الكيان، فغابت مصطلحات تلك الإدارة عن «أحقية» الكيان في الدفاع عن نفسه، وضرورة استمرار العدوان للقضاء على «الإرهاب»، ليحل عوضها مصطلحات إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وضرورة عدم اتساع دائرة الحرب، فالأفكار التي حملها وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن في زيارته الخامسة منذ بدء «طوفان الأقصى» إلى الكيان تختلف عن تلك التي حملها في أول مرة، ليقول كلاماً في الرياض وأبو ظبي لم يكن ليفكر به مجرد تفكير سابقا: «اتفقنا على العمل معا لتنسيق جهودنا من أجل مساعدة غزة على الاستقرار والتعافي، والتوصل إلى مسار سياسي للفلسطينيين والعمل على سلام طول الأمد».
لهجة واشنطن الجديدة ربما لم ترق لقادة الكيان، حيث لم يعتادوا سماعها من قبل، الأمر الذي زادهم إرباكا، فمصلحة الإدارة الأميركية عدم اتساع الحرب خوفاً على مصالحها الإستراتيجية في المنطقة، ولعدم إلهائها عن ملفاتها الإستراتيجية الكبرى تجاه روسيا والصين وإيران، فيما أهداف نتنياهو على النقيض من ذلك حيث يستمتع بدفء نار الحرب التي أشعلها في المنطقة، ويعي جيدا أن صقيع السجن سوف ينخر عظامه إذا ما انطفأت نار حربه تلك.