ضليع هو الغرب في إدارة معاركه الاستعمارية بكل ملحقاتها، وضليع أكثر بمعرفة التأثيرات التي يمكن أن تتركها هذه الملحقات على فعالية آلته العسكرية المتفوقة حتى لتعادل، أو تفوق، تأثير البندقية في الميدان أو توازي إيمان الجندي الممسك بقبضتيه على هذي الأخيرة، وتجاربه منذ بدايات الحرب العالمية الثانية راحت تجترح فصولاً وتجتر ملاحم في سياقات الملحقات، كان البعض منها ذا تأثير فاعل حتى إنه تفوق على ذينك المعطيين في مرات عدة.
في اليوم الخامس لعملية «طوفان الأقصى»، أي عندما تكشف ما جرى تماماً بأدلة قاطعة، شبه الرئيس الأميركي جو بايدن الهجوم الذي قامت به «حماس» بـ«الشر المطلق»، وأضاف إن الفعل «يماثل ويتجاوز أحياناً ما ارتكبه تنظيم داعش»، والملاحظ هنا أن بايدن كان قد عمد في كلمته الآنفة الذكر إلى استخدام مصطلحات تهدف بالدرجة الأولى إلى إلغاء المسافة القائمة بين تفسير ما جرى وبين تبريره، الأمر الذي يمكن تلمسه عبر استخدامه لألفاظ مثل «الوحشية» التي مارستها «حماس» و«القسوة الخالصة ضد الشعب اليهودي» الذي يتعرض لحملة كبرى من «الكراهية» ولممارسات هي «الأكثر دموية لليهود منذ المحرقة»، ولم يكن اعتباطياً استحضار هذي الكلمة الأخيرة، أي المحرقة، التي عمل الغرب على جعلها تغوص عميقاً في الذات الغربية التي ستشكل لاحقاً، ولا تزال، الضامن الأكبر لدوام واستمرار الدعم الغربي لهذا الكيان الذي شكلت «الهولوكست» ذريعة قيامه الأهم.
كان الفعل ذا مرميين أساسيين أولاهما عزل ما جرى عن أي حالة تعاطف من أي طرف كان، ما يعني بالضرورة توجيه طعنة قد تكون الأكبر للقضية الفلسطينية التي كانت قد دخلت مع الإعلان عن «صفقة القرن»، زمن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في منحدر يراد لقيعانه أن تستطيع تغييبها تماماً، وثانيهما هو نزع «الأنسنة» عن حركة «حماس» الأمر الذي يساعد في عزلها عن حاضنتها الشعبية أولاً ثم عن نسيج الشعب الفلسطيني برمته ثانياً، ثم تالياً عن أي حالة تعاطف يمكن أن تبديها شعوب وحكومات لا تزال تتخندق وراء متاريس «حقوق الشعوب» وهي تبدي تأييداً للقضية الفلسطينية، مما ستكون له تداعياته الكبرى على الهدف الذي ستعمل لأجله أي عملية عسكرية لاحقة والتي سوف تعقبها، من دون شك، عملية سياسية يكون هدفها الأساس وضع تراجم لإنجازات الأولى.
لم تنجح عملية «دعشنة» المقاومة الفلسطينية، بل إنها لم تستطع اختراق النسيج الثقافي والفكري للغرب، وهو الأمر الذي يمكن تلمسه في التظاهرات التي شهدتها، ولا تزال، مدن ومقاطعات غربية عديدة وهي بالمجمل كانت تفوق نظيرتها في بلدان المنطقة عموماً، ولأن لزوم الفعل كان ضرورياً لتبرير استخدام أقصى أنواع التدمير والقتل ظلت التصريحات الغربية مرابطة عند مصطلحاتها الأولى التي جرى استخدامها لتصدير صورة ما جرى فجر 7 تشرين الأول الماضي، والذي بدا كأنه يمثل نخراً في الذات الغربية قبيل أن يكون في نظيرتها الإسرائيلية، وعلى الرغم من ذلك بدا أن «الحجارة» المستهدفة هي من النوع الأصم الذي يستحيل اختراقه.
هنا تقرر التركيز على الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية التي أبدت تلاحماً أسطورياً مع المقاومة على الرغم من أنها كانت مستهدفة منذ اللحظات الأولى إلا أن الفعل تنامى بشكل كبير على وقع الفشل الحاصل في المساعي الآنفة الذكر، والشاهد هو أن الجيش الإسرائيلي كان قد ألقى يوم 15 كانون الأول المنصرم، أي قبيل الإعلان عن بدء المرحلة الثالثة للحرب، مناشير كانت لافتة في مضامينها، ولافتة أيضاً في معطياتها التي يمكن القول إنها سعت لقلب رمزية المشهد ورموزه، المضامين تقول إن المناشير تطلب من أهل غزة التخلي عن «حماس» التي «فقدت قوتها» وباتت «نهايتها قريبة» وإن مقاتليها «لم يتمكنوا من قلي بيضة»، قبيل أن تضيف: «من أجل مستقبلكم قدموا المعلومات التي تمكننا من القبض على الأشخاص الذين جلبوا الدمار والخراب للقطاع»، أما الأشخاص فهم يحيى السنوار الذي رُصدت مكافأة قيمتها 400 ألف دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي للقبض عليه، يليه أخوه محمد السنوار 300 ألف دولار، ثم رافع سلامة 200 ألف دولار، واللافت هنا، مما يمكن إدراجه في سياق قلب المشهد، هو أن المكافأة التي وضعت لمحمد الضيف جاءت في المرتبة الرابعة بواقع 100 ألف دولار، على الرغم من أن التقارير الاستخباراتية الإسرائيلية كانت تشير إلى أن الأخير كان قد وضع، جنباً إلى جنب يحيى السنوار، خطط وتفاصيل عملية «طوفان الأقصى»، والمؤكد هنا أن الفعل لا يندرج في سياق سوء التقدير بل في سياق التقليل من رمزية هذا الأخير، ولربما يتكشف ذلك في الخطأ الذي عاد وارتكبه المتحدث باسم جيش الاحتلال دانيال هاغاري يوم 28 كانون الأول الماضي حين قال: «إن عملية العثور على محمد الضيف وقتله سوف تستغرق وقتا طويلاً»، وهذا يعني أن هاغاري قد باح بما يعتمل دواخل صنع القرار بما لا يتناسب مع ما رمى إليه المنشور الآنف الذكر.
بعيد ساعات من إلقاء المناشير ظهرت مقاطع فيديو عديدة وهي تظهر العشرات من أهل غزة وهم يجمعون تلك المناشير مستخدمين إياها في إشعال النار للتدفئة أو الطبخ، أما القيادي في «حماس» عزت الرشق فقد نشر على تيلغرام تصريحاً مقتضباً قال فيه: «لا وقت لقلي البيض، مقاومونا منشغلون بشواء الميركافا».
كاتب سوري