ثقافة وفن

مخرج أكاديمي من روّاد السينما السورية … ملص لـ«الوطن»: لا بد من جهات منتجة تساعد السينمائيين في التعبير عن قضايا راهنة وقابلة للعرض

| مصعب أيوب

مثقف مبدع وتاريخ من الشغف والتجلي والعطاء، أعطى السينما بعداً إنسانياً وأفقاً رحباً، وأسهم في تقديم السينما السورية، وله في عالم السينما مقعد مميز حافظ عليه مع الأيام، هو مخرج وروائي قدير وناسج حكايات من طينة خاصة، فصنع ألقاً بهياً للقنيطرة المدمرة، ولا يمكننا أن ننسى كيف حوّل أحلامه التي امتزجت بها المشاعر والطموح إلى صورة أثرت فينا عميقاً وأنطق التاريخ بلسان معاصريه، هو اسم رائد في تاريخ السينما السورية، وكان من أبرز من شاركوا في حملها إلى الخارج، يحمل الروائي والمخرج السينمائي السوري محمد ملص في جعبته كنوزاً سينمائية نفيسة وحصاد سنوات طويلة وبداخله حسرة من الزمن الذي آلت إليه الثقافة والفن في بلادنا.

القنيطرة 74

يدرك ابن مدينة القنيطرة أنها قبل حرب 67 كانت المنطقة الواقعة على الحدود السورية ومركز للقوات السورية والعاملين في الجيش السوري، وقد شرع بإنجاز فيلمه القنيطرة 74 منذ اليوم الأول لدخوله الأراضي السورية عقب عودته من الدراسة في الاتحاد السوفييتي، ولعل أبرز ما لفته عند عودته أن الناس تأتي إلى المدينة لترى الدمار، ولكنه قرر أن يقصد إحدى نساء هذه المدينة ليستطيع أن يستعيد معها ذاكرته وذاكرتها عن حياتها وطفولتها، وخاصة حين تلتقي بامرأة كانت تعيش في المدينة قبل أن يدمرها الإسرائيليون لتكتشف أن منزلها غير مدمر وأن بقاءها حمى بيتها وأرضها وتقرر أن تنفض الغبار عن سنين العمر وتنسف من البيت الذي نشأت فيه كل مظاهر وتبعات الحرب وتقيم فيه على الرغم من أن العدو الإسرائيلي محيط بالمدينة وأصوات القذائف لا تتوقف أبداً.

جيل جديد للسينما

يؤمن صاحب فيلم الليل 1992 أن هناك بعدين أساسيين يجب الحديث عنهما حول الوضع السينمائي في سورية، أولاً، التغيرات الكبيرة الناشئة حالياً في العالم كله وهي التي تلعب دوراً كبيراً وأساسياً بإعادة النظر في البنية السينمائية وباللغة وبالموضوعات التي يتم تناولها، وثانياً البعد الخاص بالحياة السينمائية السورية التي كانت في الحقيقة تعيش سابقاً محطات هامة جداً ولاسيما في العدد الكبير من السينمائيين السوريين الذين يحققون أشكالاً مختلفة، ولكن مؤخراً في ظل الظروف القاسية التي أفرزتها الحرب يشير إلى أننا بتنا نلاحظ أن عناوين الوضع السينمائي تزول تدريجياً وتفسح المجال لجيل جديد لم يعش تجربة حياتية خارج الحرب تنتمي إلى ما يحدث على صعيد السينما العالمية وبالتالي طرح موضوعات أقل أهمية مما كانت السينما السورية تتناوله والحديث حولها من أجل التطور والوصول إلى مرحلة أفضل من المرحلة التي كانت عليها.

محطة انعطافية

ولأنه وثق في كثير من الأحيان الحروب والدمار كان لا بد لنا من وقفة معه حول ما يعيشه الفلسطينيون اليوم وما إذا كان يفكر أن يعطي القضية شيئاً جديداً من فنه وإبداعه فيقول: «حقيقةً أنا أشعر أنني وصلت إلى ما يمكن تسميته بالاكتفاء فيما يخص الموضوع الفلسطيني، ولعل فيلم المنام شكل بالنسبة لي محطة انعطافية في تناول القضية الفلسطينية، وخاصةً أن السينما الفلسطينية بعد فيلم وكتاب المنام تم تناولها على أيدي عدد مهم وكبير من السينمائيين واستطاعوا أن يعوضوا ما هو ناقص في الحديث والتعبير عن الوضع الفلسطيني سواء في الضفة الغربية وغزة أو خارج هذه المناطق التي وجدت فيها المخيمات الفلسطينية في بلدان عربية متعددة، وهذا ما أتاح للسينمائيين الفلسطينيين أن يقولوا كلمتهم، وفيما يخص الأحداث الأخيرة في غزة نستطيع أن نقول: هي محطة وطنية ومقاومة قد لا تحتاج بصورة مباشرة إلى عون ثقافي، فقضايا الثقافة تحتاج إلى عمل على مستوى زمني بعيد المدى ولا ترتبط فقط بالظروف الراهنة والمانشيتات التي ترفعها القوات الإسرائيلية أصبحت معروفة ومحددة وليس غريب عليها الهجوم بالوحشية التي رأيناها».

وبما أننا تطرقنا إلى فيلم المنام كان أن سألنا ملص عن الأحلام التي تراوده حالياً وما الذي يشغله ليؤكد أنه بات اليوم مطمئناً على كل الأحلام التي كان يشاهدها ويسجلها أحياناً ما يجعل الحديث عن الأحلام الراهنة بالنسبة له محطة تنتمي إلى مرحلة مختلفة وطموحه الراهن في محاولة التعبير عن الواقع مباشرةً وليس من خلال التعبير عنها بواسطة الأحلام.

تعبير ثقافي

كيف علينا نحن كوجه من وجوه الإعلام كشف تزييف الرواية الغربية التي جندتها الولايات المتحدة والدول الغربية لدعم الكيان الإسرائيلي وتجميل صورته العدوانية؟ يرد ملص قائلاً: القدرة البصرية اليوم على مشاهدة الأحداث تعويض كبير عن صناعة الأحداث والتعليق عليها، ونحن اليوم نعيش العدوان الإسرائيلي على غزة لحظة بلحظة ويوماً بيوم ولدينا موقف مؤلم ومدهش لما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه بواسطة هذه الحرب، فالقدرة البصرية على النقل المباشر لكل المعطيات المحيطة بأي حدث حربي أو اجتماعي أو اقتصادي تحمل بعداً معوضاً عن الاحتياج إلى التعبير الثقافي، والتعبير الثقافي حين يفقد راهنيته يجب أن يتجه إلى القضايا الأكثر عمقاً وأكثر حضوراً في حياة الناس من أجل تطوير الوعي والإحساس بالعالم المحيط بك.

تجديد طاقات

كان آخر أعماله في السينما «سلم إلى دمشق» 2013 ولكن ملص ينطلق نحو تجديد طاقاته وإمكانياته ولغته وبالانتماء إلى اليوم أكثر من الانتماء إلى السينما بالمعنى الذي كانت رائدة فيه أن ذاك قبل ثلاثين عاماً لكي يواكب متطلبات العصر وثورة الميديا.

كما أنه يعجز عن تحديد الشيء الذي تغير فيه منذ قرون إلى اليوم معتبراً نفسه أنه ينتمي إلى نفسه سنة بعد أخرى، ويحاول أن يجدد طاقاته وإمكانياته وكذلك كل تصوراته وعلاقاته مع العصر والمرحلة التي يعيشها سنة بعد أخرى وبالتالي يمكننا القول إنه لم يعد هناك شيء لم يتغير، على صعيد الوعي والإحساس والمعرفة وحتى التجربة، فجميعها معطيات الزمن الذي عاشه.

أثر كبير وعميق

لا يستطيع ذكر ما الذي حمله أو أخذه أو ما شكله خلال وجوده في الاتحاد السوفييتي، فتجربة الدراسة مدة خمس سنوات في بلد كالاتحاد السوفييتي هي عريقة وعميقة ومؤثرة إلى حد لم يتح له حتى الآن التصفح لكل ما كان قد كتبه في فترة الدراسة، وإذا كان قد استطاع استخراج رواية «إعلانات عن مدينة كانت تعيش قبل الحرب» من تلك الكتابات، فإن ما تبقى ليس بأقل أهمية للحديث عن الواقع الذي كان في مدينة كبيرة وعظيمة ومهمة هي مدينة موسكو، وقد أعطته الكثير جداً مما هو فيه اليوم، ولا تزال هذه المدينة ذات أثر كبير وعميق في كل منطقة تفكير وطرق التفكير الخاصة بذاته.

سينما ذات حضور

يصرح مبدع التحفة الفنية «أحلام المدينة» بأن أهم ما لفته أثناء فترة الدراسة أحد المخرجين الشباب «أندريه تاركوفسكي» وحين بعث به إلى معهد السينما في موسكو لمعايشة تجربة أحد الأفلام فقد اختار تاركوفسكي لقضاء الفترة العملية اللازمة من التدريب مع فيلمه «المرآة»، ولكن لسوء الحظ في تلك الفترة لم يتح له المشاركة بكثير من المشاهد لهذا الفيلم، فيصرح بأنه أمضى فترة التدريب العملي مع فيلم «أغنية عن العشاق» وبالتالي انتقل إلى مرحلة التخرج، ليؤكد أنه لا يمكننا أن نتوقف عند مخرج واحد، معتبراً أن تلك الفترة بين الـ68 والـ74 كانت السينما السوفييتية آنذاك صاحبة وجود وحضور وهي بالطبع نقلة نوعية كان روادها عدد كبير ومهم من المخرجين المعروفين في العالم حتى اليوم، ولذلك تجربة الدراسة تركت بصمة كبيرة في حياته المهنية واليومية وكذلك الظروف الشخصية.

قضايا راهنة

تشكل تجاعيد وجهه وحركات يديه عصارة العمر الذي أمضاه حاملاً هم مدينته ليبقى على تماس مباشر بها ويرفض النأي بالنفس بعيداً، ولكن تبقى فلسفته للنهوض بالمشهد السينمائي مرتبطة بوجود جهات منتجة متطلبة وقادرة والتي تساعد على مطالبة السينمائيين بالتعبير عن قضايا راهنة ومهمة وقابلة للعرض، فيشير في حديثه إلى أن السينما تعاني حالياً سواءً في سورية أم البلدان العربية من مشكلة إنتاج ومشكلة عروض، فإذا تجولت اليوم في دمشق وحاولت اكتشاف صالات العرض السينمائي الصالحة والمفعلة وما هي الأفلام التي تحققها المؤسسة العامة للسينما وتستقطب من خلالها جمهور قادر على أن يمنح تلك الأفلام طاقتها الجماهيرية وإمكانياتها المادية، فستجد ضعفاً كبيراً في الإنتاج والمعرفة والاختيار وهو ما أسهم بشكل كبير في التراجع، إضافة إلى الظروف السياسية والاقتصادية المعيقة التي يعيشها مجتمعنا في الفترات الحالية.

قضايا جديدة

يؤمن الرجل السبعيني أن السينما السورية ينقصها الإنتاج والخروج من عزلة المؤسسة العامة للسينما وعدم اقتصار التعبير السينمائي من خلال هذه المؤسسة كإنتاج، مبيناً أن الجيل الجديد لا ينتظر المؤسسة، ولاسيما أن السينما أصبحت قادرة خطوة وراء أخرى على أن تصيغ قضاياها من جديد، فنحن نعاني مشكلة وهي أن الجيل الجديد نشأ في ظروف الحرب أكثر مما نشأ مع ذكريات الوطن وحالة الوطن الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغير ذلك، ولذلك بات الطريق أكثر صعوبة ولكنه أكثر عمقاً وعلاقة مع الحاضر.

بطاقة تعريفية

محمد ملص مواليد القنيطرة 1945 بعد إتمام دراسته الثانوية سافر إلى الاتحاد السوفييتي والتحق بمعهد السينما في موسكو وتخرج فيه عام 1974 وقد انطلقت مسيرته الفنية والروائية فور تخرجه وعودته إلى سورية، فكان أن قدم تحفاً فنيةً عديدة ومنها: القنيطرة74، أحلام المدينة 1983 الذي غلب عليه الطابع التوثيقي، والمنام 1988، والليل 1992، وجميع هذه الأفلام حازت جوائز عالمية ومحلية في بلدان عديدة منها سورية ولبنان وتونس وتم تكريمه في مهرجان الفيلم العربي برلين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن