لا شك أن مبادرة دولة جنوب إفريقيا لمحاكمة إسرائيل في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي وإدانتها بجرائم إبادة شعب، تستحق أكبر وأعلى درجات التقدير والاعتزاز من كل شعوب العالم بشكل عام ومن الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية بشكل خاص، فهي دولة الشعب الذي قاوم الاستعمار الاستيطاني البريطاني وقدم التضحيات دفاعاً عن وطنه واستقلاله وحقق الانتصار على المستوطنين البيض وكل من دعمهم من الدول الإمبريالية، ولأن دولة جنوب إفريقيا تنطلق من هذه القاعدة فقد وضعت في مذكرة إدانة إسرائيل طلباً بإيقاف كل عمليات العدوان العسكرية الوحشية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة فوراً وبأمر قضائي من المحكمة التي تعد مؤسسة رسمية من منظمات الأمم المتحدة.
ولذلك يلاحظ الجميع أن خوف الولايات المتحدة من هذا الأمر القضائي جعلها تهدد وتوعد كل من يقف إلى جانب دولة جنوب إفريقيا بالضغوط والعقوبات، فقد أعلن الناطق باسم مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض جون كيربي في الثامن من كانون الثاني الجاري أن: «الولايات المتحدة تجد أن تقديم هذا الطلب لمحاكمة إسرائيل لن تكون له قيمة وهو غير بناء ولا أساس له مطلقاً»، وفي مؤتمره الصحفي في تل أبيب قال وزير الخارجية الأميركي توني بلينكين: «مرة أخرى نكرر أن قضية اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة إبادة شعب لا قيمة لها وهي تغضبنا أمام ما تقوم به حماس وحزب الله والحوثيون وإيران واستمرارهم بالدعوة العلنية لتصفية وجود إسرائيل والقتل الجماعي لليهود»، ومن الطبيعي بعد هذا الرفض الأميركي لمحاكمة إسرائيل أن تضع واشنطن على جدول عملها مهمة تهديد الدول التي تقف إلى جانب العدالة.
إنها المرة الأولى التي ستجبر المحكمة الدولية إسرائيل بالمثول أمامها لأنها، أي إسرائيل، من الدول التي وقعت على «ميثاق حظر إبادة الشعوب» وقد وقعت على هذا الميثاق منذ صدوره لحماية اغتصابها لفلسطين، ولكي تتهم الفلسطينيين وحركتهم لتحرير وطنهم بتهمة إبادة «شعب إسرائيل»، بينما ها هي الآن تثبت عليها الإدانة بارتكاب جريمة إبادة شعب فلسطين، وبسبب خطورة مثولها أمام محاكمة من هذا القبيل بدأت وزارة الخارجية الإسرائيلية والأميركية بإعداد خطة موسعة يجري بواسطتها تهديد الدول والضغط على حكوماتها بعدم التجاوب مع هذه الدعوة القضائية وتستمر في تصدرها للدفاع عن جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي في القطاع.
الموقع الإلكتروني لمجلة «آكسيوس» الأميركية نشر في التاسع من شهر كانون الثاني الجاري وثيقة حصل عليها من بعض المصادر الدبلوماسية الإسرائيلية خلف الكواليس، ذكرت أن «إصدار أي حكم قضائي من المحكمة الدولية سيحمل مضاعفات كبيرة على إسرائيل لا تقتصر فقط على مستوى القانون الدولي، بل سيكون لها تداعيات عملية ثنائية ومتعددة الأطراف واقتصادية وأمنية»، وقيل إن هذا ما جاء في البرقية، التي حصل موقع «آكسيوس» على نسخة منها في أثناء توزيعها من ثلاثة مسؤولين إسرائيليين مختلفين، وتضيف هذه البرقية إنه «بسبب الخوف من حكم قضائي يدين إسرائيل فإن وزارة الخارجية الإسرائيلية تدعو سفاراتها وكل العاملين فيها إلى إبلاغ جميع السياسيين والدبلوماسيين الأجانب بأن يعلنوا أن إسرائيل تعمل مع عدد من الأطراف الدولية على زيادة كميات المساعدات الإنسانية للقطاع وسوف تعمل على تخفيض الضرر بالمدنيين»، وطلبت وزارة الخارجية أن يجري الإعلان عن هذا الخطاب الإعلامي الإسرائيلي قبل موعد انعقاد جلسة المحكمة الدولية في لاهاي اليوم الخميس 11 كانون الثاني الجاري، ووعدت وزارة الخارجية الإسرائيلية سفاراتها بأنها سترسل لرؤساء دول العالم برقيات بهذا المضمون باسم رئيس الحكومة (الإسرائيلية) بنيامين نتنياهو.
ومع رؤية هذا الفزع الإسرائيلي من قرار محكمة لاهاي والدور الرائد والكبير لدولة جنوب إفريقيا المنتصرة على جرائم إبادة الشعوب التي شنتها عليها بريطانيا باستعمارها الاستيطاني، يصبح الوقوف إلى جانب دولة وشعب جنوب إفريقيا من أعلى مستويات المهام النضالية والإنسانية لفرض العدالة التي يستحقها شعب فلسطين وكل الشعوب التي استهدفها الاستعمار في القرن الماضي، فبريطانيا التي هزمت حركة تحرر جنوب إفريقيا مشروعها الاستيطاني في الثمانينيات من القرن الماضي قابلة أن تهزم مرة أخرى في مشروعها الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ويصبح الاصطفاف مع مذكرة دولة جنوب إفريقيا لمحاكمة إسرائيل أهم امتحان تواجهه كل الدول الحرة والمستقلة في العالم.