استمرار وضعية غياب الآفاق السياسية لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة نتيجة اعتبارات وعوامل عدة بات الجميع يدركها من تعنت إسرائيلي لعدم تقديم أي تنازل فيما يتعلق بشروط المقاومة ورغبة رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في إطالة أمد العدوان بهدف البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة بالتزامن مع مساعيه البارزة في تحميل الجميع مسؤولية ما حصل في السابع من تشرين الأول 2023 ومحاولته التملص من المسؤولية، إلى جانب وجود أبرز مكونات وفواعل اليمين المتطرف المؤثرين في حكومة نتنياهو، والأهم من كل ذلك استمرار الدعم السياسي والعسكري الأميركي لهذا الكيان وإن كانت بعض التصريحات الصادرة عن جوقة إدارة الرئيس جو بايدن مؤخراً توحي بتراجع نسبي لهذا الدعم في محاولة لإيصال رسالة مزدوجة، الأولى لحكومة نتنياهو المتطرفة ومجلس حربه العسكري مفادها أن واشنطن غير معنية بالتصعيد في المنطقة وأنها تسعى جاهدة لكي تبقى التطورات مضبوطة وضمن السيطرة، والثانية لدول المنطقة وخاصة القوى الفاعلة ضمن محور المقاومة والتي أكدت الوقائع بأنها قد استلمت رسالة من واشنطن من خلال دولة خليجية تضمنت تفضيل الولايات المتحدة الأميركية للحلول السياسية على العسكرية وأنها مستعدة لإيجاد آليات لحل كل الملفات الشائكة في المنطقة بالتفاوض، والرد عليها بشكل حازم من الأمين العام لحزب اللـه حسن نصر اللـه عندما ربط أي تهدئة في المنطقة بوجوب وقف العدوان على قطاع غزة.
في ظل هذا المشهد المعقد من مواقف وتفاعل وتوجهات أطراف الصراع المختلفين، ووجود مؤشرات تصعيدية تنبئ برفض إسرائيلي لأي ضغوط داخلية أو إقليمية أو دولية عبر عنها نتنياهو صراحة خلال اجتماعه مع ممثلي حزبه من الليكود في الكنيست عندما رفض وقف العدوان إلا بعد تحقيق الأهداف التي أعلنها منذ أكثر من ربع عام وفشل في تحقيق أي منها رغم استخدام كل القوة الفائضة، يستمر الشعب الفلسطيني عموماً والغزاوي بشكل خاص في تقديم المزيد من صور وتعبيرات المقاومة، في التأكيد على أن نهج وثقافة المقاومة والتصدي لقوات الاحتلال لا تقتصر على العمل العسكري، وإن كان هذا العمل يشكل العمود الفقري.
إن المتابع لكل تفاصيل ومجريات ما شهدته الأراضي الفلسطينية في فجر السابع من تشرين الأول ومن ثم بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بشقيه الجوي ثم البري تجاه شمال ووسط وجنوب القطاع، وما تخلل ذلك من تهدئة مؤقتة، يدرك بأن المقاومة وفعلها ومفرداتها وتعبيراتها لم تكن حكراً على كتائب القسام أو سرايا القدس وغيرهما من الفصائل، بل كانت هذه المقاومة خياراً وقدراً لأهالي غزة، ويمكن إبراز صور هذه المقاومة التي يمكن وصفها بالمقاومة الشعبية بأهم الأمثلة الآتية:
أولاً- رفض أهالي قطاع غزة ممارسة أي ضغط كان وتحت أي ظرف على الفصائل المقاومة لوقف عملياتها سواء الصاروخية أم الحربية البرية ضد قوات الاحتلال، على الرغم من الحملة الإعلامية التي وظفتها إسرائيل لتأليب الفلسطينيين على المقاومة وارتكاب المئات من المجازر بما في ذلك المجازر التي طالت المشافي ودور العبادة والمدارس بذريعة احتماء مقاومين بها أو اتخاذها مقار لهم، ولعل أبرز صور مقاومة أهالي غزة تمثلت هنا «بالوعي الجمعي» لما تبتغي تل أبيب تحقيقه من انشراخ واقتتال داخلي وتصفية للمقاومة وفرض منظومة حكم خاضعة لها هذا من جانب، من جانب آخر إدراك أهالي غزة بأن الحكومة الإسرائيلية الحالية وسابقاتها وربما الحكومات المقبلة ستجد ألف ذريعة لقتل الفلسطينيين سواء بوجود المقاومة أم بغيرها لذلك لم نسمع من داخل قطاع غزة أي صوت يحمل المقاومة مسؤولية ما حصل، أما الجانب الثالث فإن المقاومة كانت تعبيراً طبيعياً لابد منه لحالة الحصار التي فرضت على الحاضنة الشعبية في غزة.
ثانياً- رفض مشاريع التهجير والتمسك بالبقاء داخل القطاع، إذ برزت منذ اللحظات الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، العديد من المشاريع تحت تسميات عدة ومن جهات مختلفة داخل الكيان لتهجير الفلسطينيين، من طرح مشروع 1982 وكذلك المناطق العازلة والمخيمات البديلة والهجرة الطوعية وما إلى ذلك، حتى إن سياسة التدمير الممنهجة التي تبنتها قوات الاحتلال كان هدفها إخلاء المناطق ذات الكثافة السكانية مثل مخيم جباليا وخان يونس وغيرها، صور المقاومة هنا تمثلت في عدم إخلاء معظم المناطق المستهدفة حتى في شمال القطاع الذي دمر كلياً بشكل تقديري ورفض الفلسطينيين الخروج من القطاع، رغم تشردهم في المدارس والمخيمات وداخل وأمام المشافي، بل عاد البعض منهم للبقاء فوق ركام منزله.
ثالثاً- حرب الصورة والكلمة ونقل الحقيقة، إذ لم تكن المقاومة العسكرية فقط هي من تمتلك الرغبة في نقل حقيقية ما يحصل داخل القطاع من مجازر يرتكبها الاحتلال أو خسائر يتكبدها في قواته المقتحمة أو إخفاقه في تحرير أسراه، بل كان للإعلاميين والصحفيين الفلسطينيين دور بارز في معركة نقل الحقيقية والصورة سواء عبر وسائل الإعلام التي يعملون بها أم من خلال ما يوثقونه عبر هواتفهم الشخصية ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل تعدت حرب الصورة الإطار المهني، من منا لا يتذكر الطفل عبود بطاح، الذي كان ومازال يطل عبر مقاطع فيديو صغيرة وبإمكانات متواضعة، يحاكي بها وضعية المراسلين لنقل مآسي القطاع نتيجة العدوان بتعبيرات كوميدية مليئة بالسوداوية، والتي كان آخرها قبل ثلاثة أيام من نشر هذا المقال «مناشداً بتدخل المنظمات والجمعيات الحقوقية للحيوانات لحمايتها من الجوع بعد إخفاق المنظمات الدولية في التدخل لحماية المدنيين الفلسطينيين».
الصورة الأخرى والأبرز هو ما تعرض له الصحفي والإعلامي وائل الدحدوح الذي بات اليوم يمثل لكل الصحفيين الفلسطينيين والراغبين في العمل الصحفي «قدوة» نتيجة قدرته على الاستمرار بعمله رغم كل ما تعرض له من استهدافات مباشرة وغير مباشرة، تمثلت بداية باستشهاد زوجته وابنه وابنته وحفيده وعدد من أقاربه في استهداف إسرائيلي لمخيم النصيرات نهاية شهر تشرين الأول من العام الماضي، ثم تعرضه لضغوط من تل أبيب وتهديده بالقتل إن لم يوقف عمله وينتقل نحو الجنوب أو الخروج من القطاع، وهي الرسالة التي نقلتها واشنطن مما اضطره للانتقال من الشمال باتجاه الجنوب الذي أصيب بها أثناء تغطيته لجريمة الاحتلال التي قصفت مدرسة «فرحانة» بخان يونس قبل نهاية العام الماضي بأيام، الأمر الذي لم يمنعه من الاستمرار في الظهور أمام الشاشة وعلى مرآة العالم بإصابته التي مازالت تحتاج لعلاج غير متوافر في القطاع نتيجة ضعف الإمكانات وشح الكوادر، ولعل وجود هذه الإرادة من المقاومة، دفعت سلطات الاحتلال للانتقام من الصحفيين الفلسطينيين عموماً والدحدوح بصورة خاصة عبر استهداف سيارة تقل العاملين في المجال الإعلامي أدت لاستشهاد حمزة، الولد البكر لوائل الدحدوح، وزميله الصحفي مصطفى ثريا أثناء تغطيتهم لمجزرة ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلية في خان يونس جنوبي القطاع.
إقدام الكيان على قتل مئة وتسعة من الصحفيين حتى الآن وارتكابه العديد من المجازر تجاه ذويهم، هو خير دليل على أن ما تمكن هؤلاء من إنجازه في معركة الصورة والحقيقة وهو استكمال لفعل المقاومة العسكرية، وصورة إضافية من صور المقاومة التي يقدمها الغزاويون في التصدي لهذا العدوان، فالدحدوح مثلاً بات يختزل القضية، خسر أبناءه وتعرض للقتل والضغط ومازال يصر على نقل الحقيقة، وكذلك فلسطين التي خسرت الكثير من أراضيها وأبنائها وتعرضت لمحاولات التذويب والتغييب، ولكن مازالت ولّادة لأبنائها المقاومين المطالبين بحقوقها.
رحم اللـه محمود درويش حين قال: «إن سألوك عن غزة، قل لهم: بها شهيد، يُسعفه شهيد، ويُصوره شهيد، ويودّعه شهيد ويصلي عليه شهيد».
كاتب سوري