نقرأ عن مؤامرات ونحللها، نجول في تفاصيلها وكأننا شاركنا في تفاصيلها ووضعها! ندّعي المعرفة، ونغوص في أعماق التاريخ والمؤامرات، من أقدم الأزمان وصولاً إلى 1916 وبداية الوجود الغربي في بلادنا، ونستعرض خرائط المناطق الملونة من حمراء وصفراء وخضراء، ونعرف بالتفصيل ما حيك سابقاً من إقامة دويلات اخترنا لها ألواناً، واختاروا لها قوميات وطوائف ومذاهب! ونعرف أن اتفاقية سايكس بيكو جاءت فغيّرت الخرائط السابقة الموضوعة، ومنذ كانت الاتفاقية ونحن نقوم بشتمها وشتم من رسمها، لأنها قسمت الوطن العربي الكبير!
وهنا انبرى المؤدلجون للدفاع عن الدولة العثمانية التي كان العربي فيها يتجول ويتوظف ويتداخل بغض النظر عن مكانه، فالمقدس في دمشق، والشامي في مصر، وكأن هذا الأمر من عطايا الدولة العثمانية، ونسي هؤلاء أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يتاجر في الشام! فطبيعة الأشياء أن يتجول العربي في كل مكان من أمكنة الوطن العربي، أن يتاجر وأن يعمل، وأن يحج متى شاء، وأن يتم حجه بزيارة بيت المقدسي، وقد أدركنا عدداً من المسلمين والمسيحيين الذين يطلق عليهم لقب (المقدّس) بل لقد أدركت من كبار السن من يباهي ويتفاخر على أصدقائه بأن حجته إلى بيت الله الحرام أعلى من غيره لأنه ختمها في القدس، فهو مقدّس..
المهم أن زيارة القدس صارت مستحيلة، والذين يحملون لقب مقدّس ماتوا ولم يعد لهم من وجود، والأكثر أهمية أننا نعرف ذلك، ونباهي بالمعرفة، فنحن نعرف، ولكننا لم نفعل شيئاً، عرفنا أن الخرائط الملونة طائفية وقومية، وبعض الناس باركوها، ولم نفعل شيئاً حيالها، والذي فعل هو المستعمر نفسه، هو الذي ألغاها ليطرح الخريطة السياسية المتعلقة بالوجود الصهيوني، عرفنا ولم نفعل شيئاً حيالها، مع أن بعض الفعل يكفي، ولكننا على ما يبدو ننتظر المستعمر أن يفعل، وأن يختار لنا الخريطة المناسبة!
كان بإمكاننا أن نواجه هذه المخططات كلها، وأن نغيرها، وأن ننجز مشروعنا الحضاري والثقافي، وملكنا عدداً غير قليل من المفكرين المتنورين من نهايات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، ولكننا اتهمناهم ورفضناهم وصلبناهم، ونظرنا إليهم على أنهم مرتبطون بالمشروع الغربي، وكشفت الأيام بأنهم هم أصحاب المشروع التنويري والتحرري الذي قتلناه بأيدينا، فكما قتلنا من قبل ابن رشد وابن خلدون فأخذهما الغرب وبنى علومه عليهما فعلنا مع الأجلاء والعلماء اليوم، ودون أن يرفّ لنا جفن!
بل نتباهى! ولا نزال نمارس نقدهم وشتمهم! أما قرأنا من ينتقص بشار بن برد وابن المقفع والمعري والحلاج وابن رشد إلى اليوم؟ أما رأينا من أحرق دار عرض سينمائية لأنها تعرض فيلم المصير ليوسف شاهين بسبب ابن رشد؟!
وبدل ابن رشد اخترنا مجموعة من المفكرين الشراح الذين يعجزون عن تقديم أي جديد، وجلسنا نلوك أنفسنا، ونظن أننا نحافظ على هويتنا وأنفسنا! وبدل ابن برد والحلاج اخترنا شعراء لا يهتمون بالفكر، وكل همهم وصف الحناء في جلسة زوج الحاكم! وصرنا نتغنى بهذا الشعر، ونعدّه ممثلاً لنا ولتراثنا!
وبدل محمد عبده وغيره من الذين فهموا حركة الإصلاح وانطلقوا بها قمنا باغتيال أفكارهم، وأنشأنا فكراً إيديولوجياً قاسياً، انطلق بنا ليصل إلى مفاصل الحياة الفكرية والدينية!
وصلنا إلى مرحلة اقتنعنا فيها بأننا نملك فكراً متطرفاً! اقتنعنا قبل أن يتهمنا الآخر، ولم نعد نشعر بما يملكه الآخر من تطرف عبر تاريخه! لم نعد نتذكر حروب الإبادة التي مارسها الآخرون بفكرهم وتطرفهم ضد مجتمعاتهم أولاً، وضدنا وضد العالم أجمع فيما بعد!
وحين يدهمنا الخوف والخطر الوجودي نبدأ استرجاع ما فعله الآخر!
ونكتشف فجأة مخططاتهم وكل ما يفعلونه ضدنا، نحن نعرف ونعرف، وما نعرفه حقيقة، ولكن لا نفعل شيئاً حياله، ونترك الأمور تسير كما هي بانتظار مخططات أخرى، وكل ما نقوم به حلقات الندب والبكاء من جانب، والتغني بالماضي المجيد من ناحية أخرى! ونقبع لا حول لنا ولا قوة..
ما الذي يمنعنا من الفعل؟
ما الذي يجعلنا مستقبلين للفعل؟
العلم طريق نعرفه ولا نسلك سبيلاً إليه!
العمل وسيلة لا نعرف إليه ما يقدمنا ونقدمه!
المسافة بيننا وبين العالم المتقدم تزداد وتزداد، ونحن لا نزال عالقين بشهر زاد وشهريار، وأخواتهما من الحكايات التي ترفع هذا وتخفض ذاك، وتزيد الهوة والخلاف بيننا..!
ما فائدة معرفتنا؟
لا تتبادلوا المعرفة لأنها تزيد الألم.
من الداخل نبدأ، من الذات البداية، وما دمنا لا نفعل من داخلنا وننتظر الفعل الخارجي فلا أمل!