حين احتلت القوات الأميركية جزءاً من فيتنام في بداية ستينيات القرن الماضي وانطلقت من سايغون بعد احتلالها من الجنوب لاحتلال هانوي في الشمال واستمرت في عملياتها الحربية الوحشية على الشعب الفيتنامي، لم يكن يتسنى للعالم والرأي العام رؤية ومعرفة كل ما تقوم به من مذابح وتشريد وتدمير لفيتنام طوال 11 عاماً من تلك الحرب، ولم تكن الصحافة الأميركية والغربية مهتمة بنقل المظاهر الوحشية الأميركية للعالم أو تصويرها أو نقلها بتقاريرها، وعلى الرغم من أن القليل جداً من أنباء وصور وتقارير تلك المذابح كان يصل إلى وسائل الإعلام إلا أن الرأي العام في العالم كان يدرك ما تقوم به قوات الاحتلال الأميركي التي حشدت نصف مليون جندي إلى ساحة الحرب الفيتنامية. وبالمقارنة مع حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة طوال أكثر من ثلاثة أشهر، وبسبب ثورة الاتصالات الذكية المتداولة أصبح كل فرد في هذا العصر في كل يوم وساعة ولحظة يشاهد كل هذه المذابح التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي وبكل تفاصيلها وضحاياها علناً، بل إنها تظهر يومياً في كل التصريحات المباشرة التي يعلنها قادة الكيان من دون أي حسابات أو اعتبارات، وأصبح هذا الواقع لا يحتاج للجان تحقيق أو استقصاء محايدة أو تابعة للأمم المتحدة أو منظماتها المختصة لجمع الإثباتات والأدلة عن هذه المذابح وفي مقدمها إبادة شعب فلسطين وترحيله بقوة الإرهاب والتجويع للتخلي عن وطنه، وأصبح مرتكب هذه المذابح يعترف بالصوت والصورة بلسانه الرسمي والجماعي بارتكابها والاستمرار بإجراءاتها منذ السابع من تشرين الأول الماضي حتى هذه اللحظة وما سيتلوها من دون أن يتعهد بموعد إيقافها، ولا شك أن هذه البشرية في هذا العصر لم تشهد في تاريخها جريمة علنية كهذه مكشوفة بكل أوصافها وأهدافها الوحشية ووثائقها اليومية المنتشرة في كل مكان وفي ذاكرة كل فرد، جريمة يتبجح المرتكبون لها في كل لحظة بالاعتراف بها.
هذه المذابح وترحيل أصحاب الأرض الفلسطينيين منها لم تكن الأولى بهذا الشكل، بل سبقتها مذابح لم تظهر إلى العلن إلا بعد ارتكابها بسنوات وبعد اختفاء معظم صورها مثل مذبحة دير ياسين والطنطورة وغيرهما عام 1948، ومثل تهجير 800 ألف من الفلسطينيين يمثلون 80 بالمئة من شعب فلسطين خارج مدنهم وقراهم بل خارج فلسطين كلها بحدود عام 1967، وسياسة تهجير الفلسطينيين بالإرهاب والقوة لم تتوقف عند حرب عام 1948 بل جرى ارتكابها مرة أخرى حين احتل الكيان الضفة الغربية عام 1967 وقطاع غزة، وقام بتهجير فوري لما يزيد على 450 ألفاً من سكان القطاع والضفة إلى المملكة الأردنية في شرقي الأردن ومنعهم من العودة لأراضيهم منذ ذلك الوقت، وها هو الآن يكثف كل وحشيته ويرتكب في قطاع غزة إبادة جماعية للشعب الفلسطيني ويدمر معظم مدنه وقراه ويطالب علناً برحيله عن القطاع، وهو يعرف أن اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 الذين تشتتوا خارج الوطن ما زالوا منذ 75 عاماً يصرون على عودتهم إلى مدنهم وقراهم في كل فلسطين.
أمام كل هذه الحقائق التي لا تزول ستنعدم كل أخلاق وقيم البشرية كلها إذا سمح هذا العالم للكيان بالهروب من إدانته في محكمة الجنايات الدولية ومنع هذه الإدانة التي لا يمكن تسويغها مدى الدهر، ولا أحد يشك بأن العمل على إدانته بهذه الجرائم ستتمسك بتحقيقه دولة جنوب إفريقيا وكل من يقف إلى جانبها جانب العدل والتحرر، وهي خير من تولى الدعوة لمحاكمة إسرائيل بإبادة شعب لأن هذا ما تعرضت له على يد بريطانيا التي احتلت ونقلت المستوطنين الأوروبيين إلى جنوب إفريقيا لمسح تاريخ شعوبها وأسماء أوطانها، فأصبح بعضها يطلق عليه اسم روديسيا نسبة لقائد المستوطنين سيسيل روديس وليس باسم قبائلها أو شعوبها، وفي تلك الفترة نفسها تقريباً أعدت بريطانيا منذ وعد بلفور عام 1917 خطة نقل الأوروبيين اليهود هذه المرة لاستيطان فلسطين فصنعت لهم جيشاً وزودتهم بالأسلحة لتوظيفهم كمستوطنين أوروبيين في كيان يخدم المصالح الاستعمارية على حساب شعب فلسطين والأمة العربية والإسلامية، وهي تدرك أننا سنقاومهم ونقاتلهم لحماية أوطاننا وهذا ما سجله التاريخ حتى الآن، فأصبحت بريطانيا هي التي جاءت بالمستوطنين اليهود الأوروبيين لكي يموتوا هنا حماية لمصالحها، على حين فضل أغلب يهود العالم أن يبقوا خارج هذا الاستغلال البريطاني لليهود فأصبح اليهودي الذي يبقى في فلسطين هو الذي يتعرض لانعدام الأمن وللموت في حين يعيش اليهودي الآخر في العالم دونما حاجة لجيش يهودي أو تجنيد إلزامي في جيش الاحتلال، وفي النهاية سوف تؤدي مقاومة الشعب الفلسطيني إلى إدراك المستوطنين لهذه الحقيقة وما تقتضيها.