قضايا وآراء

إسرائيل و«العدالة الأممية».. تنفيس للاحتقان أم لحظة توافق دولية؟!

| فراس عزيز ديب

إسرائيل تمثل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب مجازرَ جماعية، حدثٌ لم نعتد سماعه رغم أننا كبرنا على صور المجازر الإسرائيلية التي لا تنتهي، وكيفَ لها أن تنتهي والمجتمع الدولي قرر مراراً وتكراراً الصمت؟!

حدثٌ سرق الأضواء من كلِّ الأحداث الساخنة حولَ العالم، لأنه مشهدٌ لم نعتد رؤيته إطلاقاً بأن يكون الكيان الصهيوني في قفصِ الاتهام مجرداً من حصانتهِ الدولية، تلاحقه إلى ردهات العدالة الدولية أشلاء الأطفال والنساء، ودموع الرجال وحجارة المنازل.

مشهدٌ لم نعتد رؤيته إطلاقاً أن تكتفي الولايات المتحدة الأميركية ببعض التصريحات الدبلوماسية التي تتعاطى مع موضوع المحاكمة كما لو أنه زوبعة في فنجان، هل نجح وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن بطمأنة قادة الكيان حول الموقف الحقيقي من المحاكمة أم ستصدق بعض التسريبات الغربية بأن تمرير المحكمة من عدمه هو جزء من الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لوقف المغامرة العسكرية التي لن تؤدي للنتائج التي تحمي رأسه قبل حماية الكيان والشروع مباشرةً بمفاوضات حل الدولتين برعايةٍ عربية؟

ربما تصدق هذه التسريبات وربما يمكننا قراءتها في التلعثم الذي أبداه مندوبو الدفاع عن الكيان الصهيوني خلالَ مرافعاتهم لدرجةِ أضاعَ فيها أحدهم أوراق المرافعة.

لكن في المقابل علينا أن نتعاطى مع فكرةِ هذه المحاكمة بالكثير من الواقعية وألا يأخذنا الحماس إلى التحليق عالياً في الطموحات لدرجةٍ نرى فيها مجردَ خضوع الكيان للقضاء الدولي هو إنجاز، هذا بصراحة تسخيف لما جرى من قتلٍ وإجرام بحق أهلنا في غزة على طريقةِ من يرى الانتصار بانتهاء المستقبل السياسي لبنيامين نتنياهو، تحديداً أننا محكومون بالإجابة عن السؤال الأكثر إلحاحاً: ما مآلات القضاء الدولي في مثل هكذا محاكمات؟

للإجابة عن هذا السؤال علينا كما كل القضايا الدولية والتعاطي مع المحاكمة من منظورين:

المنظور الأول يتمثل باختصاص المحكمة وصلاحياتها، هنا ولكي تتضح الصورة من باب المقاربة لا أكثر، فعندما أصدرَ القضاء الفرنسي قراراً بتوقيفِ مسؤولين سوريين بتهمة ارتكاب مجازر، قلنا إن قرارات كهذه مثيرة للسخرية لا يشبهها إلا قرارات طغمة المعارضات السورية بتوقيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لأن القضاء الفرنسي أعطى لنفسهِ السلطة القضائية للبحثِ في جرائم لم تُرتكب على الأراضي الفرنسية على طريقة «مداح نفسه كذاب»، لكن في القضية المرفوعة من قبلِ جنوب إفريقيا على الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب مجازر جماعية في عدوانها الأخير، يبدو الأمر مختلفاً اختلافاً جوهرياً لأن المحكمة التي تبحث في القضية هي محكمة مختصة ولديها صلاحية للبحث قضايا كهذه تحال أمامها من قبلِ الدول الأعضاء فيها.

مما لاشكَّ فيه أنه بعدَ نحو ستين عاماً من إنشاء المحكمة بشكلها الحالي قد تبدو هذهِ المحاكمة هي الأكثر تعقيداً، فالمحكمة التي أُوجدت بالأساس لحل النزاعات بين الدول إن كان لجهةِ النزاعات الحدودية أو النكوص في تطبيقِ المعاهدات وما غيرها من خلافات أو حتى تقديم الاستشارات لمجلس الأمن في القضايا التي تهدد السلم الدولي، تبدو اليوم أمام مهمة جديدة تتمثل باتهامِ دولة لأخرى بارتكابِ مجازرَ إبادةٍ جماعية، وقد لا تكون هذهِ المحاكمة هي الأولى من نوعها، لكننا نتحدث اليوم عن إسرائيل، الكيان المَحمي باسم القانون الدولي نفسه الذي تغاضى عقوداً عن مجازرها ورفضها تنفيذَ قرارات الشرعية الدولية في الجولان والضفة وجنوب لبنان، مع ذلك تبقى المحكمة قادرة على استخدامِ سلطتها القضائية من دون مواربة أياً كان الطرفان المتقاضيان لأن صلاحية كهذه تبدو مٌستمدة من فكرتين، الفكرة الأولى هي انشاؤها كإحدى هيئات الأمم المتحدة، والفكرة الثانية أن انضمام الدول إليها بموجب اتفاقية موقعة مع المحكمة تعني قبولاً ضمنياً من هذهِ الدول باختصاصات المحكمة وصلاحياتها القضائية، حتى الانسحاب من عضوية المحكمة لا يسقط المحاكمة ما دامت الإحالة تمت قبل الانسحاب منها.

أما فيما يتعلق بالأدلة فمن الواضح أن الجانب الجنوب إفريقي تمكن من صياغة مرافعة قانونية تُرفع لها القبعة استناداً إلى اتفاقية منع الإبادة الجماعية وتحديداً فكرة استشهادهِ بتصريحات المسؤولين الإسرائيليين عن إبادة الفلسطينيين وتطبيقها على الواقع بشهاداتٍ حية رآها العالم أجمع، وهو ما ينطبق تحديداً على المادة الثالثة من الاتفاقية التي تجرِّم الدعوات المباشرة أو غير المباشرة لإبادة شعبٍ أو عرق بطريقةٍ لا تقبل القسمة على اثنين، إذاً لدينا الاختصاص القضائي ولدينا الأدلة الدامغة، فهل نرى المجرم خلف القضبان؟

هنا نصل إلى المنظور الثاني المتمثل بالتوقيت وبمعنى آخر هل إننا أمام لحظة استثنائية تسير فيها الشرعية الدولية بخطٍّ متواز مع التوافق الدولي؟

منذ إعلان جنوب إفريقيا الشروع بالادعاء على الكيان الصهيوني كان السؤال المطروح: أين العرب، ولماذا لم يحملوا هم رايةَ القضاء الدولي وتحديداً أن أغلبية الدول العربية منضمة إلى هذه الاتفاقية كمصر والمغرب؟ طبعاً لن نتحدث عن سورية لسببٍ بسيط هو أن العزلة السياسية التي يفرضها الغرب على سورية ستنهي إجراءات المحاكمة قبل أن تبدأ، أين الدول الإسلامية الموقعة على هذه الاتفاقية كإيران وتركيا؟ هناك من طرح الكثير من المسوِّغات عن عدم بدئهم بهذه الإجراءات لكن في الحقيقة تبدو مسوغات خارج حدود المنطق لأن هذا الغياب يحمل الكثير من علامات الاستفهام!

في سياقٍ متصل قد لا يختلف اثنان على أن محاكمات كهذه فعلياً بحاجة لتوافقاتٍ دولية هي أبعد ما تكون عن إمكانية تحقيقها في الوقت الحالي، أما إن كنا أكثر واقعية فسنقول إن هناكَ توافقاً دولياً، نعم لكن على جعل المحكمة كنوع من تنفيس الاحتقان ضد ما مارسه الغرب خلال الأشهر الماضية من تشكيلِ غطاءٍ لكل جرائم الاحتلال المرتكبة، هذا ما قلناه في أكثر من مناسبة بأن الكثير من الدول الفاعلة باتت تشعر بأنها تدافع عن بنيامين نتنياهو أكثر من كونها تدافع عن وجود إسرائيل، ما يعني أن إطلاق محاكمة كهذه سيرفع الكثير من الضغط عن كاهل هذه الدول ولو صورياً أمام شعوبها من دون أن يشكل ذلك تغييراً في سياستها الداعمة للكيان من دون قيود.

في سياقٍ متصل قد تبدو هذه المحاكمة إن ذهبت بعيداً، أشبهَ بالفضيحة للكثير من الدول التي تشارك بشكلٍ مباشر أو غير مباشر الاحتلال جرائمه، فمن سيسمح بذلك؟ علماً أن القانون الجنائي ساوى بين المرتكب للجرائم ومن سهَّل قيام الفعل ودعمه، أما المادة السادسة من الاتفاقية فتحدثت صراحةً عن محاكمة المتهمين أمام محاكم الدول التي ارتكبت عليها الجرائم، هل لدى الأمم المتحدة اعتراف بدولة اسمها فلسطين؟ أم إن الكيان بحاجة لكبشِ فداء تجري محاكمته كنوعٍ من إحقاق الحق بعدَ كل هذه الجرائم؟ أما اللجوء إلى إنشاء محكمة خاصة تحت مظلة الأمم المتحدة لمحاكمة المتهمين فيحتاج إلى قرار من مجلس الأمن قد يكون دونه أكثر من فيتو أميركي- بريطاني على طريقة الفيتو الذي منع قراراً إلزامياً بوقف إطلاق النار في غزة، فعن أي عدالةٍ دولية نتحدث وأي قانون دولي ننتظر؟

في الخلاصة يكفي الجانب الجنوب إفريقي شرفَ المحاولة التي نحترم، لكن الإسهاب في التفكير بما سينتج عن هذهِ المحاكمة هو نوم في العسل لا أكثر، حيث ستضيع هذه المحاكمات بين مطرقة كسب الوقت والسندان الأقوى هو الذي يقرر، وما دمنا لسنا الأقوى فخففوا قليلاُ من حجمِ طموحاتكم!

كاتب سوري مقيم في فرنسا

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن