ثقافة وفن

روافد الرؤية النقدية المتكاملة في فهم المكان … جماليات في الشعر الجاهلي لا تقف عند الارتباط التقليدي وتضعه في سياقه الفلسفي

إسماعيل مروة

ويبقى الشعر الجاهلي بغنى معانيه وصوره ومرابعه، وتفوق شعرائه ميداناً خصباً للدراسة، سواء كانت الدراسة تتعلق باكتشاف أسرار المكان، أم معرفة الرحلة الجاهلية للشعراء والقبائل، أو كانت في استكناه مواطن الجمال في هذا الإرث الشعري الذي تجاوز زمانه ومكانه، وفي أغلب الأحيان حمل معه الزمان والمكان ليكشف لنا مواطن تغيب عنا، وربما تغيّر من فهمنا لتلك الحقبة الزمانية التي عاشها شعراء العربية، وهم يرسمون لوحات لا أبهى ولا أجمل، لكنها بقيت في إطار التذوق النقدي والإعجاب، ولم تنتقل إلا نادراً إلى ميدان التطبيق العملي وفق النظريات الغربية التي تؤكد في تطبيقها على تفوق هذه الحقبة الشعرية، ووصولها إلى قمة في الجمالية عند تشريح جزئيات هذا الشعر و«جماليات المكان في الشعر الجاهلي، للأخ الدكتور حسان فلاح أوغلي دراسة غنية في هذا الجانب لاعتمادها على الدرس والتحليل والتطبيق بعد مرحلة أمضاها في الجمع والرحلة مع (طفيل الغنوي)، وقد أهلته مرحلة الجمع والتحقيق للمعايشة والوصول إلى دراسة تطبيقية ترتكز على الخبرة والمعرفة في إجراء التطبيق للنظريات القديمة والحديثة والوصول إلى نتائج خاصة لا تكرر ما كان من قبل، وإن أفادت من تلك الرؤى.

علاقة مترابطة

العناصر الجمالية في الشعر الجاهلي ليست محصورة في جانب دون آخر، فهي ابنة البيئة والناقل الحقيقي لما في هذه الطبيعة من عناصر، وتتواشج العلاقة كما يرى الباحث بين المتحرك والثابت، بين الطبيعة والإنسان، سواء كان فرداً أم قبيلة.

«إن دراسة المكان في الشعر عموماً ينبغي أن تتقصى العلاقة بين الشاعر والمكان بوصفها علاقة بين ثابت ومتحول، فالمكان على تعدده وتنوعه ثابت، والشاعر بحالاته الانفعالية والعاطفية هو المتحرك، واعتماداً على أحدث النظريات النقدية الأدبية فإن الباحث ركز على التضاد في القيم الجمالية، إيماناً منه بأن العنصر الجمالي لا يتضح إلا إذا ظهر نقيضه، وهذا ما طرحته الفطرة الشعرية والنقدية العربية القديمة (والضد يظهر حسنه الضد) وبذلك كان بناء الجماليات مكتملاً في إظهار خصوصية الشعر الجاهلي ومكوناته.

المكان والقيم والعلائقية

في الفصل الثاني بدأت القيم الجمالية بالحياة وصيرورتها وحتميتها:

الموت/الحياة- الحياة/ المتعة- الموت/ حتميته وقدريته- الجميل/ القبيح.

ووقف عند مكونات العنصر الجمالي عند الشاعر الجاهلي والتي يقف منها القارئ اليوم موقفاً مستغرباً عن العلاقة التي تربط الشاعر- الإنسان بالحيوان والمكان، فكانت العناصر: المرأة- الفرس- الناقة- الجبال والأودية- الكرم والبخل- الصعلكة والنقيض:

تسمعُ للحلي وسواساً إذا انصرفت
كما استعان بريح عشرق زجل
كأن مشيتها من بيت جارتها
مرّ السحابة لا ريث ولا عجل

الصورة الجمالية تتعلق بالحواس جميعها عندما يتحدث الشاعر عن المرأة، ويضيق المجال عن إيرادها مع التمثيل والتجسيم، بل الرسم التشكيلي الذي يمارسه الشاعر في قصيدته، ومن عناصره الفرس الذي يقدمه بصورة جمالية قد تقارب صورة المرأة:

كأن دماء الهاديات بنحره
عصارة حنّاء بشيب مرجّل

وأمام صمود المكان وبقائه يبث الشاعر همومه، ويشارك المكان في إحساس البقاء أو الفقد:

أجارتا إن الخطوب تنوب
وإني مقيم ما أقام عسيب

وطبيعة الحياة الجاهلية جعلت صورة جمالية مدهشة كما عبر الناقد بين الكرم والبخل:

أماويّ: إن المال غاد ورائح
ويبقى من المال الأحاديث والذكر

ومن بلاغة هذه الصورة الجمالية عند حاتم الطائي لم يجد شاعر العربية في العصر الحديث بدوي الجبل أكثر منها جمالية وتعبيراً لينظمها على قبره:

سيذكرني بعد الفراق أحبتي
ويبقى من المرء الأحاديث والذكر
ورود الربى بعد الربيع بعيدة
ويدنيك منها في قواريره العطر

وحتى الصعلكة مع ما تجاذبتها من قراءات، إلا أن الناقد يتوقف عند القيم الجمالية التي صاغها الشاعر الصعلوك، فأعطت مفهومات مخالفة للواقع إلى قيم جمالية وأخلاقية غاية في الروعة:

ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه
كضوء شهاب القابس المتنور
يعين نساء الحي ما يستعنَّه
ويمسي طليحاً كالبعير المحسّر

يصعب أن تجمع العناصر الجمالية، لكن ما لفت الانتباه في الدراسة د.أوغلي اعتمادها المطلق على النص والقيم الجمالية في هذه الأشعار، في حين أغلب الدراسات تنحو منحى أيديولوجياً في تقويم الظواهر في الشعر الجاهلي والقديم، إذ ينظر كثيرون إلى المرأة أو الصعلكة من منظور سياسي أو يحكمون أحكاماً قيمة، لكن الباحث تجاوز هذه النقطة الإشكالية، التي تفرغ الشعر من محتواه، ليقف عند النص وجمالياته، ويتتبع هذه الجماليات ليشكل حالة شعرية، وقراءة منصفة لذلك الشعر من دون أن تخضعه للمقاييس الفكرية الحالية، وهذا ما برع فيه في تحديد الزمان والمكان، فلم ينقله من عصره، ولم يغير بيئته التي صاغته.

الثنائيات الجمالية وتتابعها

ولم يتوقف الناقد عند العناصر الأساسية المعروفة، بل تجول في البيئة والمكان والحياة، فتناول الأطلال والحروب والرحلة والحركة والخصب والموت، ولم يستثن عالم الجن والخرافة والأساطير، لأن ذلك يرتبط بمفهوم البطولة، وبما أن الناقد أراد الحديث والنقد وفق النظريات الحديثة، فقد وقف عند ظاهرة القصيدة المسرحية.. ووقف عند البيئة الأساس في حياة الشاعر الجاهلي، وهي الصحراء بكل ما فيها، وبتقلباتها الطقسية والمناخية، وما تؤثره في حياته:

سحاب ذات أسحم مكفهر
توخّى الأرض قطراً ذا افتحاص

وأعطى مفهوم الأسطورة والخرافة حيزاً بما يقدمه من جمالية تأتي من الخيال المجنَّح للشاعر الجاهلي، وختم باللون في البيئة، ونلاحظ أن الألوان هي الأبيض والأسود والأحمر والأصفر والأخضر وحدها، وهذه الألوان هي التي تشكل العناصر الجمالية عند الشاعر الجاهلي، وهي ألوان البيئة عنده، للإنسان والحيوان والطبيعة.

جماليات المكان في الشعر الجاهلي دراسة جمالية أدبية تطبيقية ذات غايات نقدية متميزة، تنحصر في فلك البحث عن الجمال ومكامنه كما كان، وليس كما نريده نحن، استطاع أن يجلو محاسن الشعر الجاهلي بأسلوب رائق سهل وجمالي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن