«آل مراش».. الأوائل في رصد الواقع العربي وصياغة حلم المدنية والتقدم … فرنسيس ومريانا عملا معاً على إصلاح المجتمع والمرأة وتثقيف المجتمع
| مايا حمادة
انطلاقاً من أن الصحافة العربية تدخل في حيز الإبداع والارتقاء بالمجتمع نحو الأفضل والتي تدل على الواقع المعاش بجميع حيثياته الاقتصادية والثقافية والاجتماعية لتحفيز الإنتاجات الفكرية والأدبية، ورغم الصعوبات الجمة التي رافقت ظهورها تاريخياً ولم تمنع تطورها، باشرت مجموعة من الكتاب والمفكرين من بينهم أفراد من عائلة «مراش» الحلبية بسرد الحكايات عن الانفتاح الثقافي والمدنية في أبهى صورها والتي تكفل الخير للجميع، ونادوا بتحسين العادات والأخلاق متأثرين بالأجواء الأدبية والعلمية التي كانت سائدة في منتصف القرن التاسع عشر بمدينة حلب باحثين عن المعاصرة والارتقاء الثقافي والفكري.
من المؤكد أن من آل مراش «فرنسيس ومريانا» اللذين تأثرا بعقلية والدهما «فتح اللـه مراش» الأديب المثقف المحب للعلم والمالك لكنز من الكتب الغنية في عناوينها ومحتواها ليتمسك أبناؤه من بعده بقيمته وجوهره طيلة حياتهم، كما حاولوا وعن جدارة إيجاد ضالتهم بين أفكارهم الغارقين فيها بكل شجاعة وإيمانهم بأن رسالتهم ستصل إلى الجميع، فهذه العائلة كان لها ثقلها الفكري والثقافي آنذاك فاهتموا ولسنين طوال بقضايا اجتماعية شتى وكانوا علامة فارقة في تاريخ الأدب في المنطقة، ليتدرج فيما بعد الكثير ممن لمعت أسماؤهم في عالم الصحافة والإعلام لكن تبقى سيرة «آل مراش» محفورة في ذاكرة الناس بصورة «النسمة» التي لم تعرف إلا مفهوم السلام والحب.
في الأدب الأيكولوجي
وعن أهم المواضيع التي سردها «فرنسيس مراش» (1836-1874) ابن مدينة حلب، كانت في الأدب الإيكولوجي حول التمدن والحرية متأثراً بأفكار الحداثة الأوروبية أي في التوقيت ذاته الذي تم فيه إصدار أبرز كتبه وهو كتاب «غابة الحق» متحدياً ومتمرداً به على الكليشيهات الاجتماعية والثقافية السائدة بوقتها، عالج المشكلة بكل بساطة ووضوح بالعودة إلى ذاته وعوالمه الخاصة مبتعداً عن الانعزالية والتقوقع ومنطلقاً من الداخل في الحث على المشاركة الإيجابية لنهضة المجتمع العربي الكبير بشكل جديد داعياً بالعودة إلى الأخلاق ونبذ الاستعباد بكل أشكاله ما ينم عن وعي وحكمة غير مسبوقين وتفكير منطقي عنده بهدف العيش ضمن إطار المدينة الفاضلة، كما كان السبّاق في التفكر بمسألة الحفاظ على الطبيعة والتعدي عليها ونهب خيراتها بتوحش فيفقد الإنسان إنسانيته وحث على تأسيس الشوارع والطرق وإنشاء الأبنية وترميمها كي تصب في المصلحة العامة للناس من دون إهمال هذه الأمور والتي تؤدي للتسيب والخراب الحتمي، فنّد «فرنسيس» هذا الموضوع في مقالة له بعنوان «التمدن المتوحش» نشرتها «مجلة الجنان» عن جنون التمدن الذي يقود إلى الهاوية وهلاك الناس، وبيّن أهمية ربط التمدن بالسلام والمحبة بين الناس وبراعة استخدام الصور والقوافي المرتبة في كتابه الشعري «مرآة الحسناء».
الملهمة التي تحدت الظروف
أما حكاية «مريانا مراش» أخت فرنسيس فكانت مؤثرة ذات نهاية موجعة بألم المرض العصبي ولم تكن متوقعة لشاعرة وصحفية عزفت على إيقاع مرتكز على صلاح المرأة، معتبرة أن النساء لهن دورهن الأساسي في تثقيف الشعوب وهن جزء لايتجزأ من مكنونات الحياة الفاضلة التي أساسها الحكمة والعقل واتفقت مع فرنسيس بنشر ركائز الأخلاق وأن المرأة «خير الأصحاب وأطيب الأحباب» تركز موضوعها الأهم من خلال مقالها «شامة الجنان» على مضمون حقوق المرأة وبينت فيه أن النظام الاجتماعي لا يكتمل من دون وجودها لذلك أيقنت أنه لابد من تأسيس صالونها الثقافي الترفيهي في حلب لتجمع فيه نخبة من المثقفين العرب ولمناقشة أهم المواضيع الاجتماعية والفكرية وحتى الموسيقية فكان الصالون بمنزلة متنفس وساحة للحوار الدائم، ولشدة تأثرها بأخيها الذي علمها اللغة العربية ووالدها صاحب المخطوطات اللغوية والأدبية العديدة والذي تابعها في أمور النحو والصرف في البدايات أكدت ضرورة تعليم النسوة وتميزهن في جميع مناحي الحياة، وتربية الفتيات تربية حسنة قائمة على فهم الحياة والاقتداء بالعلم منارة للمستقبل.
طريقهم نحو الإصلاح
يترافق الأثر والتأثير بوضوح في كل أعمال «أسرة مراش» الأدبية وهو نتاج مهم للقضايا التي كانت تشغلهم فترة من الزمن بل لمفرزات حياة واقعية سادت فيها الطائفية تبلورت في عقولهم واكتملت في وجدانهم فأشار «فرنسيس» إلى أوجه المقارنة بين مملكة العبودية ومملكة الحرية من خلال وضع تسميات محددة وصريحة باستخدامه للرمزية في عدة صور (العدل والحرية والتمدن وغيرها) والاستعارة والتصوير ولغة الحوار في كتاب «غابة الحق». وفي المقارنة بين الرجال والنساء وتوضيح صفات البخل والجبن عند النساء حصراً وبدا ذلك جلياً في مقالة «شامة الجنان» لمريانا حيث فسرت أن البخل هو الحرص أما الجبن فهو الشجاعة الأدبية واستخدمت التعليل ولاسيما في شرحها لبيتي المتنبي قائلة: «فقد حق للشاعر بعصره أن يتغزل بهاتين الصفتين من النساء لأنه وقتئذٍ كان دأب الرجال الغزو والضرب والنهب والأخذ بالثأر وأما النساء فمحجوبات في خدورهن» واستخدمت التفسير كأداة لتبيان فكرتها عندما شرحت المقصود بالشجاعة الأدبية بأنها الصبر على الحوادث واحتمال الأكدار لا الجسارة والاقتحام نظير الرجال، وشجعت مريانا أسوة بأخيها على أهمية الإسهام بمجال الآداب والمعارف ودعوة النساء للمشاركة في الكتابة بمجلة الجنان لصاحبها بطرس البستاني، كما بيّنت الأسرة أسباب التخلف والعبودية في الشرق وأوجدوا حلولاً لهذه المشكلة من خلال استعراضهم أسس المدنية والتحرر وتقدمها في المدن الأوروبية التي زاروها أو قرؤوا عنها حتى فصلوا ذلك وبشكل متقن في مجمل إنتاجات الأخوين مراش لتحقيق الإصلاح الثقافي والاجتماعي سواء بالنقد أم بالكتابة الأدبية.
وبهذا نرى بأن «أسرة مراش» قدمت بنضالها الفكري كوكبة من الإصدارات المميزة في الشعر والقصص القصيرة والرواية والنقد الصحفي ما شجع الأدباء على تبني نهجهم في التماس الطريق إلى الساحة الأدبية المحلية والعربية والعالمية والأمثلة على ذلك كثيرة، لتبقى الكتابة والقراءة خارجة من لب وعمق الحاجة الإنسانية ولا يمكن بأي وقت الاستغناء عنها.