من الواضح أن قادة الكيان الإسرائيلي، وخاصة السابقين منهم، بدؤوا بتهيئة الأرضية في الداخل الصهيوني للإعلان عن هزيمتهم أمام المقاومة الفلسطينية بالخصوص ومحور المقاومة بالعموم، وذلك من خلال جملة من التصريحات المبعثرة هنا وهناك، تضفي في مجملها إذا ما تم جمعها إلى رسم المشهد القريب للوضع على جبهة الحرب بين الكيان والمقاومة، والمشهد في الداخل الإسرائيلي على المستوى السياسي لجهة استمرارية حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من عدمها.
بعد مرور أكثر من 100 يوم على العدوان الإسرائيلي على غزة، فقد بدا جلياً حجم الهوة بين الهدف الإسرائيلي من عدوانه، والممكن تحقيقه على أرض الواقع، فذاك السياسي أو العسكري الإسرائيلي الذي ظن أول الحرب أنها مجرد أيام ويتم تحويل قطاع غزة إلى شاطئ خاص بمستوطنات الغلاف، هو ذاته من يتحدث عن حرب طويلة، ويدعو إلى البحث عن حلول والبدء بمفاوضات مع المقاومة، وضرورة إيجاد السبل لتحرير الجنود الأسرى لدى المقاومة، وليجد قادة الكيان أنفسهم بعد مئة يوم من الحرب أمام تداعيات هائلة، تتدحرج وتتضخم بشكل متسارع، سواء لجهة الضغوط الاقتصادية الداخلية، أو حنق وغضب المستوطنين، أم لجهة جر الكيان مخفوراً إلى محكمة العدل الدولية، بتهمة الإبادة الجماعية، لتُسقط المئة يوم من عمر العدوان على غزة، إمبراطورية الكذب والتضليل التي بناها الكيان منذ 75 عاماً، ولتصحح الصورة التي قلبها مذ ذلك الوقت بأنه ضحية وأن العرب مجرمون وإرهابيون يريدون إزالة الكيان.
إذا كان شيء من العاطفة والأمنيات يدفعنا إلى التركيز على هزيمة الكيان، فإننا لسنا الوحيدين ممن يتحدث عن تلك الهزيمة، بل إن بعض الإسرائيليين ومنهم المؤرخ إيلان بابيه، ذهب أبعد من ذلك، وكشف عن مؤشرات تؤكد «بداية نهاية المشروع الصهيوني» وهي «مرحلة طويلة وخطرة»، لافتاً إلى أن على حركة التحرير الفلسطينية الاستعداد لملء الفراغ بعد انهيار هذا المشروع، حيث لم يكن بابيه وحيداً في توقعاته بل إن الكثير من المحللين السياسيين والعسكريين في الكيان أكدوا أن الكيان خسر مفهومه الأمني الذي يشكل جانباً رئيساً في ديمومة الاحتلال.
من المؤكد أن الأمنيات لا تثمر نتائج أو انتصارات، إلا أن مفرزات الميدان وتغير خريطة السيطرة في القطاع، وإن كانت الذريعة الإسرائيلية هي الانتقال إلى المرحلة الثالثة من العدوان، تحت عنوان «أقلّ كثافة على صعيد العمليات البرية»، تشي بأن خسارة مدوية بدأت تلوح في الأفق، لن تكون أقل وقعاً عن دوي أول رشقة صواريخ أطلقتها المقاومة نحو المستوطنات الإسرائيلية في السابع من تشرين الأول الماضي وما تلاه، لتكون أولى خطوات تلك الرحلة وما تم إعلانه أول أمس من اتخاذ جيش الاحتلال الإسرائيلي قرار سحب «الفرقة 36» من القطاع، وإعلان وزير الحرب يوآف غالانت أن العملية البرية المكثفة انتهت في شمال قطاع غزة وقريباً في الجنوب أيضاً.
ليس الميدان من يشي بهزيمة إسرائيل، بل إن الخلافات في المستوى السياسي تؤكد ذلك، إذ إن المنتصرين في الحرب يحتفلون ولا يختلفون، كما حصل في اجتماعات «المجلس الوزاري الحربي» عندما خرج الوزيران بيني غانتس وغادي آيزنكوت من الاجتماع قبل يومين غاضبين وتوجها للمشاركة في تظاهرة ضد رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو، حيث يبدو الأخير في ورطة سياسية تهدد استمراره في العمل السياسي والإجرامي، الأمر الذي شدد عليه رئيس «جهاز الاستخبارات الإسرائيلية – الموساد» السابق أفرايم هاليفي بتأكيده على أن نتنياهو أخفق في إخضاع حركة حماس وينبغي أن يرحل الآن، ليسير في الاتجاه ذاته آيزنكوت ويتهم قادة الكيان بـ«الكذب على أنفسهم»، قائلاً: إنهم بحاجة للتوصل إلى اتفاق مع حماس من أجل تأمين إطلاق سراح الأسرى الذين ما زالوا محتجزين في غزة.
بين رؤية بابيه بنهاية المشروع الصهيوني، وأفعال نتنياهو الجنونية، فإن الكيان الإسرائيلي يسير باتجاه الزوال، أو أقله فقدانه لدوره الوظيفي في المنطقة، وفي كلا الأمرين فالنتيجة واحدة، لأن قوة الكيان ودعم الغرب له نابعة من ذاك الدور، وخسارته له، يعني بأن بقاءه الوجودي بات على المحك، وخاصة أن الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية، في غنى عن المزيد من الأعباء والمشاكل في المنطقة، وليست بذاك الاستعداد لحماية قاعدة حربية لا تفي بالغرض المطلوب منها.