انطلقت يوم 11 من كانون الثاني الجاري جلسة الاستماع الأولى بـ«محكمة العدل الدولية» للنظر في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا يوم 29 كانون الأول المنصرم ضد الكيان الإسرائيلي بتهم عدة تبدأ من انتهاك هذا الأخير لـ«اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية للعام 1948»، لتصل إلى توجيه التهمة إليه بـ«ارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة»، والجلسة التي كانت مخصصة لسماع «فريق الإدعاء» سجلت من حيث وقائعها أداء مهنيا وحرفيا لافتا من قبل هذا الأخير الذي ترأسه وزير العدل الجنوب إفريقي رونالد لامولا، ومن المؤكد أن تلك الجلسة سوف تشكل منعطفا بارزا ليس للصراع الفلسطيني الإسرائيلي فحسب، بل للصراعات المقبلة التي تكاثرت بدرجة كبيرة دلالة على العطب الذي يعانيه النظام الدولي، ودلالة أيضاً على «الوحشية» التي باتت السمة الأبرز لهذا الغرب الذي ما انفك يمارس أعلى درجاتها سبيلا للمحافظة على هيمنته العالمية.
في خطوة لافتة استبقت المحكمة، جلسة الاستماع الأولى، بالإعلان عن إنشاء منصة لها على الإنترنت، والمنصة التي أطلقها «مدعي عام» المحكمة، القاضية جوان دونوغ، هدفها كسر الحواجز التقليدية عبر الاستحصال على أكبر عدد من الشهادات والوثائق التي يمكن أن ترد إلى موقعها الذي أعلنت عنه، والجديد في الأمر هنا هو أن المحكمة لا تشترط على المدلين بشهاداتهم أن يكونوا تابعين لمنظمات حكومية أو رسمية، بل وليس بالضرورة أن يكونوا شاهدي عيان، والمهم في الأمر هو حصولهم على تلك المقاطع أو الفيديوهات التي يجب أن تكون حقيقية، بعيدة عن التزييف، والحدث من حيث النتيجة يمثل حالة تماه مع التطورات التقنية والتكنولوجية التي باتت تلامس أدق التفاصيل في الحياة اليومية، وهي ترمي لتسخير تلك التطورات ووضعها في قالب قوة كبيرة تمتلك زخماً قادراً على رسم صورة هي أقرب ما تكون للواقع على الأرض تمهيدا للوصول إلى «العدالة» التي ترجوها المحكمة.
قد يكون الأداء البارع لفريق الادعاء مدعاة لتجاوز هذا العالم لـ«محرماته» السابقة، الفعل الذي يمكن تلمسه عبر الاتهام الموجه للدولة الصهيونية بارتكاب ممارسات شبيهة بتلك التي مارسها «النازيون» ضدهم، والتي قامت «مشروعية» كيانهم عليها أصلا، وربما كان هذا التجاوز، الذي يلامس حدود «مشروعية» الكيان، هو الذي يفسر حالة «فقدان التوازن» التي ظهر عليها فريق الدفاع، الممثل للكيان الإسرائيلي من مناصريه، في الجلسة الثانية التي انعقدت في اليوم التالي لإطلاق المحكمة، والمتابع لوقائع تلك الجلسة يشعر بأن إسرائيل باتت تشعر، كأنها عارية والواقع يفرض عليها السير في خضم شارع مليء بالناس الذين ارتفعت الغشاوة عن أعينهم فجأة هكذا دون سابق إنذار، ويفسر أيضاً حالة شبيهة ظهر عليها الغرب برمته لكنها كانت عند الأميركيين شديدة الوضوح بدرجة جعلت وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن يقول إن «تهمة الإبادة الجماعية لا قيمة لها»، والمؤكد هو أن قولاً كهذا يقف على أرضية واحدة هي «الاستخفاف» بما يجري، ومحاولة القول إن الوقائع لا تتيح توجيه نوع من التهم كهذا، ومن المؤكد هو أن بلينكن كان قد جال على تلك الوقائع قبيل أن يدلي بدلوه الأخير هذا، والمؤكد أيضاً أنه يدرك أن الوقائع تنطبق تماما على التهم، لكن القبول بإدانة إسرائيل بتلك التهم سيضع الولايات المتحدة بموضع الشريك فيها أقله بالتواطؤ.
أخطر الوقائع التي عرض لها فريق الادعاء هي تلك التي وردت على ألسنة ساسة كيان الاحتلال، وقياداته العسكرية، ولعل أبرز ما جرى عرضه في جلسة الادعاء، هو ما جاء على لسان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يوم 28 تشرين الأول الماضي، أي في اليوم التالي لإطلاق العملية البرية في غزة، حين خاطب جنوده قائلا لهم: «يجب أن تتذكروا ما فعله عماليق بكم كما يقول كتابنا المقدس»، والراجح هنا أن هؤلاء، أي العماليق وفق رواية نتنياهو، كانوا يخوضون في زمن ما حربا ضد بني إسرائيل، لكن الموروث الشعبي الصهيوني جعل من «الآخر» كله ينتمي إلى فئة العماليق، ومنها، أي من تلك الوقائع، مقطع مصور للعقيد يوغيف بار شيشت، العامل في غزة، يقول فيه: «من سيعود؟ هذا أن عادوا.. سيجدون أرضاً محروقة»، وفي مقابلة أجرتها قناة بريطانية مع سفيرة إسرائيل بلندن تسيبي هوتوفلي تقول الأخيرة إن على الجيش الإسرائيلي «جعل غزة خرابا» قبيل أن تطالبه بتدمير «كل مدرسة وكل مسجد وكل بيت».
تدرك جنوب إفريقيا أنها وضعت نفسها في مواجهة سياسية قصوى مع الغرب، وأن ما ينتظرها بسبب ذلك الفعل هو الكثير من المتاعب، لكنها فضلت الانتصار لإرث نضالي استمر لنحو نصف قرن قبيل أن تستطيع إسقاطه نهائياً العام 1994، وبغض النظر عن النتائج التي ستفضي إليها المحكمة، فإنها ستستطيع من دون شك إلغاء هذا الوضع الاستثنائي الذي عاشه هذا الكيان المتفلت من القوانين الدولية ومعها كل الشرائع السماوية، حيث سينجح، من خلال الاستثمار في الفعلين سابقي الذكر، في تحويل المنطقة برمتها إلى فضاء أمني له بكل ما يرميه الفعل من حمولات على هذه الأخيرة.
كاتب سوري