قضايا وآراء

مئة يوم.. جوهر طبيعة الصراع الوجودي

| محمد نادر العمري

ما حصل خلال ما يزيد على مئة يوم من عدوان الكيان الإسرائيلي على قطاع غزة بعد الإنجاز البطولي الذي حققته المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول من العام الماضي، إضافة لقدرة هذه الفصائل المقاومة بمختلف تسمياتها من إدارة المعركة الميدانية بكفاءة وخبرة رغم الإمكانات المتواضعة الناجمة عن الحصار المفروض على قطاع غزة بعد تحرره في عام 2005، وباعتراف من النخب السياسية والعسكرية والإعلامية الغربية، كل ذلك يؤكد أن ما يجري اليوم في مواجهة للكيان المغتصب على مستوى القضية الفلسطينية بشكل خاص وعلى مستوى المواجهة مع محور المقاومة، هو صراع وجودي حقيقي وقائم منذ عقود، ولكنه اليوم امتلك كل مقومات هذا الصراع، وما عبرت عنه غزة من تصدٍّ ومقاومة وفعل فدائي ربما كان يمثل جزءاً من صورة الصراع، إلا أنها اختزلت خلال ربع عام كل أركان ومقومات هذا الصراع.

فمن خلال مقارنة بسيطة لما شهدناه على مدى الفترة الماضية، وتوثيق للتطورات والأحداث والمواقف، يمكن لنا أن نصل لمجموعة من الاستنتاجات الآتية حول ماهية الصراع مع الكيان الإسرائيلي:

أولاً- اتخذ هذا الصراع ومازال يتخذ الطابع الوجودي، إذ على الرغم من كل محاولات حكومات الاحتلال الإسرائيلي منذ فرض هذا الكيان في المنطقة وما تلا ذلك من اعتداءات ومحاولات فرض مشاريع أو معاهدات السلام، التي كانت أقرب لمعاهدات استسلام، لتصفية القضية الفلسطينية، حتى بالعودة لمراحل العدوان على قطاع غزة مؤخراً، الملاحظ كان أن طبيعة هذا العدوان وحجمه على منطقة الشمال ثم وسط وجنوب القطاع كان هدفه إعدام كل أشكال مقومات الحياة في القطاع بهدف دفع أهالي القطاع للانجبار نحو الهجرة في ظل عدم وجود أدنى مقومات الاستقرار، ومما يؤكد ذلك مروحة من المؤشرات التي تبرز أهمها في:

– طرح مشاريع التهجير منذ اليوم الأول للعدوان وبصيغ وأشكال مختلفة لتتجاوز عددها أكثر من ستة مشاريع.

– استمرار دعوات رموز اليمين المتطرف داخل الائتلاف الحكومي الذي يقوده بنيامين نتنياهو وفي مقدمتهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلائيل سموتريتش لضرورة تهجير أهالي قطاع غزة وحفاظهم على ضغوطهم وتهديدهم الذي يلوحون به على نتنياهو لاستمرار العدوان على قطاع غزة بهدف إعادة احتلاله.

– رفض نتنياهو للضغوط الأميركية والأوروبية لبحث مرحلة ما بعد العدوان على قطاع غزة، وهذا ما يشكل رغبة ضمنية إسرائيلية في تدمير كل القطاع والاستمرار بالتصفية كتمهيد نحو تهجير أهالي الضفة الغربية لما يسميه قادة هذا الكيان بـ«الوطن البديل» أي شرقي الأردن، ولعل أبرز ما يؤكد هذا التوجه إصدار وزير المالية سموتريتش مؤخراً تعليماته إلى مدير سلطة الضرائب الإسرائيلي شاي هرونوفيتش لحجز لما يقارب من مليار دولار من أموال السلطة الفلسطينية بحجة تقديمها كتعويضات لأهالي الإسرائيليين، ووصف بن غفير لسحب بعض فرق قوات الاحتلال بأنه «خطأ فادح» داعياً بشكل علني لضرورة احتلال قطاع غزة لتأمين أمن المستوطنين في غلاف هذا القطاع.

– المؤشر الأبرز هنا هو استمرار حكومة نتنياهو في عدوانها على قطاع غزة على الرغم من عدم تحقيق أي من أهدافها بعد مرور أكثر من مئة يوم لتحقيق مصالح ضمنية وغير ضمنية، في ظل ما سجله الاقتصاد الإسرائيلي من عجز بلغ 4,2 بالمئة من الناتج الإجمالي، ونسبة انكماش بالاقتصاد تجاوزت 11 بالمئة، ووصول بعض التقديرات الأولية لتكلفة الحرب خلال ربع عام لما يزيد على 51 مليار دولار.

ثانياً- صراع المحور والرؤية الاستراتيجية، في الوقت الذي كانت به إسرائيل بحكوماتها وقواتها ومؤسساتها المختلفة تسعى جاهدة على مدى عقود لتكريس وجودها في المنطقة وكسب الصراع لمصلحتها، في المقابل كان هناك محاولات فلسطينية عربية بداية ثم فلسطينية مع بعض قوى محور المقاومة تتحضر للتصدي للمشروع الإسرائيلي- الأميركي في تصفية القضية الفلسطينية لتكريس الوجود الإسرائيلي، وقد شهدنا بعد معركة طوفان الأقصى مؤشرات تشكل حقائق صراعية وجودية للفصائل الفلسطينية المقاومة وقوى المحور، تتمحور أبرز هذه المؤشرات في:

– مراكمة الفصائل المقاومة الفلسطينية لخبراتها الميدانية والعسكرية وحتى الإعلامية والسياسية لتوظيفها في معركة طويلة، إضافة لقدرتها التخزينية والتصنيعية للأسلحة.

– العقيدة القتالية وسمة الانتماء التي اتصف بها المقاوم الفلسطيني، والتي جعلته في وضعية لا يهاب الموت ويقاتل بالظروف كافة ومن دون أي ملابس قتالية وفق ما أظهرته الصور ومقاطع الفيديو من وضع القنابل على نقطة الصفر، والقتال بألبسة مدنية وغيرها، وهو ما يعزز المقاربة التي ترفض إسرائيل استيعابها، والمتمثلة في: «كلما زادت الغطرسة الصهيونية وممارسة الإرهاب بحق الفلسطينيين، أدى ذلك لتعزيز توجهاتهم نحو العمل المقاوم المسلح».

– تأثير القوى الفاعلة ضمن محور المقاومة في إشغال الجبهات، ربما حصل التباس مع بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لدى البعض حول دور وموقف باقي محور المقاومة، وربما ذهب البعض لاتهام قوى المحور بالتقاعس عن نصرة الشعب الفلسطيني، ولكن بعد مرور مئة يوم من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة تبينت الصور التعبيرية الآتية لموقف قوى المحور من هذا الصراع وفق ما يلي:

– ثقة المحور بجهوزية وقدرات الفصائل على الصمود والمواجهة، وهذا نابع عن التدريبات المشتركة والتواصل المستمر مع القيادة الميدانية.

– تفادي مخاطر ما كان يجهز للمنطقة من سعي أميركي إسرائيلي لتشكيل تحالف غربي لاستهداف قوى المحور ولاسيما لبنان وسورية، إذ أشارت بعض التسريبات لصحيفة «فورد بوليسي» عن اجتماعات حصلت بين عدة استخبارات لدول غربية بحضور إسرائيلي بهدف العمل على تشكيل تحالف غربي لاستهداف دول المنطقة، مستغلين الظروف الداخلية في لبنان وسورية وفلسطين، إلا أن القراءة الاستراتيجية لدول المحور في التوجه نحو تبني الإشغال الاستنزافي للكيان وداعميه في جبهات الجنوب اللبناني والجبهتين العراقية والسورية، ومن ثم جبهة اليمن والبحر الأحمر، أدى ذلك حتى اليوم من تفادي تحقيق السعي الإسرائيلي لجر المنطقة لحرب مع دول الغرب، ومن استنزاف إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والغرب في هذه الجبهات، وعدم السماح لتصفية الفصائل وتدمير قدراتها.

ثالثاً- المواقف الدولية والرأي العام، لطالما كان الرأي العام والمواقف الدولية أهم صور الصراع التي كانت إسرائيل تهتم بها وتسعى جاهدة في كسبها لمصلحتها بتبرير أي عدوان تقوم به، إذ كانت تستند في تحقيق ذلك لجملة عوامل من بينها علاقتها الوطيدة مع الأنظمة السياسية الغربية والعلاقة التوظيفية التي تربطها معها، وامتلاكها وتأثيرها في كبرى وسائل الإعلام والوكالات الدولية، إضافة للدورين الأميركي والغربي الداعم لتل أبيب في المنظمات الدولية ولاسيما في منظمات الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها.

ففي بداية عملية طوفان الأقصى سعت إسرائيل وإلى جانبها الولايات المتحدة الأميركية في استغلال هذه العوامل الثلاثة لتبرير عدوانها الموسع على قطاع غزة وحصولها على تأييد دولي واسع، إلا أن قدرة المقاومة على توظيف التكنولوجية في إطار الصراع مع الكيان لنقل الحقيقة للعالم، وتسارع رموز اليمين المتطرف للتباهي في المجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين، وغير ذلك، أدى لانقلاب السحر على الساحر، إذ تزايد التعاطف الدولي مع الشعب الفلسطيني في ظل ما يعانيه من مجازر، وتراجعت بعض الدول عن مواقفها الداعمة للكيان بعد أن أبدت تعاطفاً معه في بداية المعركة، واتسع حجم الحراك الشعبي الدولي، وتقلصت حجم المتابعة العالمية لوسائل الإعلام التقليدية، ولعل آخر صور التعاطف الدولي كانت في توجه جنوب إفريقيا لتقديم شكوى لمحكمة العدل الدولية ضد إسرائيل واتهامها بارتكاب مجازر ترتقي لجرائم إبادة.

الصور السابقة لطبيعة الصراع الوجودي الذي تبلور بصورة أكثر وضوحاً وبعيداً عن أي مواربة في أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، يجعل دول المنطقة في مواجهتها لهذا الكيان أمام خيارات باتت تشكل قدراً أكثر مما يمكن تسميته مسارات، إذ تتمثل هذه الخيارات في:

– أي رهان على مسار سياسي لاستعادة الحقوق هو مسار غير صحيح، ولعل الرهان على ذلك خلال أكثر من ثلاثة عقود أدى لزيادة الكيان في عنصريته وإرهابه وفاشيته.

– وحده العمل المقاوم وإن كان مكلفاً، إلا أنه الطريق الضامن لاسترداد الحقوق وفرضها على المحتل ومن يقف معه.

– لم يعد قبول الأميركي كطرف وسيط خياراً مقبولاً ولابد من استغلال تغيير موازين القوى في النظام الدولي في اعتماد شراكات مع دول صاعدة تتلاقى مصالحها مع دول المنطقة في لعب هذا الدور المحايد.

– الخيار الأخير وهو ما بات يمثل خياراً وقدراً ملحاً وضرورياً ويتمثل في ضرورة توحد كل الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، كل الفلسطينيين، في صف واحد وعدم السماح بتفريغ صمودهم وإنجازاتهم وتضحياتهم سياسياَ في إطار هذا الصراع الوجودي.

كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن