في يوم المسرح العربي.. «أنا من هناك».. محاكاة قدّمت الدعم المعنوي لفلسطين
| الحسكة- دحام السلطان
شكّلت فرقة المسرح القومي بالحسكة بحضورها الدائم والمستمر وجودها الفعلي والحقيقي بيوم الاحتفال المسرحي الذي كما جرت العادة، على أن يكون تقليداً سنوياً احتفاءً بيوم المسرح العربي، ولأن تؤثر في أن تكون من خلاله جزءاً من هذا التقليد الراقي للحالة، لتشكل حضوراً مقنعاً ولافتاً للنظر، وهذا ما دلّ عليه العرض المسرحي الجديد الذي تناولته الفرقة من على خشبة مسرح الثقافة بالحسكة في عرضها المسرحي «أنا من هناك»، والذي بدوره صوّر محاكاة عذبة وانسيابية باللون وبصبغة إنسانية قبل كل الاعتبارات العاطفية والمعنوية التقليدية أو النمطية للحالة، التي تتناول تفاصيل الواقع العربي الراهن وشجونه، الذي نحن عليه اليوم.
ملحمة إنسانية
«أنا من هناك» كتب النص فيه وأخرجه، مدير المسرح القومي بالحسكة الكاتب والمخرج المسرحي الفنان إسماعيل خلف، وجاء من دون مقدّمات، ليحيي رمزية وشذرية وأبعاد القضية الفلسطينية ومقاومتها الباسلة بأشكالها المتجددة في وجه العدوان الصهيوني، انطلاقاً من الدور الثمين الذي أخذه هذا اللون من الفن، باعتباره الفن الملتزم بقضايا وطنه وأمته المصيرية التي اتخذها على عاتقه، ومن هنا فإن إسماعيل خلف أراد أن يرسم أمام الجمهور لوحة فنية جديدة بلكنة ملحمية إنسانية، في رهان كان قد اعتدناه واعتاد إياه غير مرة فيما مضى وفي مناسبات عديدة، ربما تحمل صيغ مماثلة أو مشابهة، وبالطبع مؤكدة للمنهج اللوني الذي اتخذه «إسماعيل خلف»، لخلق لغة حوارية شفافة قريبة من وإلى ذهن الجمهور.
العرض بدأ على لسان الشخصية المحورية في العمل «جواد» وهو يصرخ من على منصة العرض نفسه، «سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوك» و«سقطتُ قربك فالتقطني واضرب عدوك بي فأنت الآن حر»، فإذاً جواد هنا يُشكّل رمزاً للشخص المقاوم الذي يحمل بداخله الكثير من التمرّد والحنين، الحنين إلى حبيبته «أمل» أحياناً، وأمه أحياناً أخرى، ومن ثم مدينته التي هي وطنه في النهاية، وحين يقول: «غمّسي بدمي زهورك وانثريها»، فإن «أمل» بالنسبة إليه، هي الأمس والآن وغداً، على الرغم من الكم الهائل من حجم الخراب والدمار الذي قتل فينا الحياة بالأمل ذاته! لتبقى «أمل» مجسّماً ثابتاً برمزيته لدى بطل العمل، ويبقى الحنين لها من خلاله ولصديقه الراحل «شامخ»، ومن هنا فإن العرض قد بنى «إسماعيل خلف» فكرته فيه على لسان ما قاله الشاعر الفلسطيني «محمود درويش» من على وتريات الشجن والحرمان والحزن والألم والأمل والمقاومة «بمشيئة الملاح تجري الريح.. والتيار يغلبه السفين»، فقام بعرض صورة حية لما يجري في فلسطين المحتلة اليوم من خلاله، حين تساءل بطل العمل: «هل تستطيع مشاهدة المسرحية دون تقمّص أبطالها المتعبين»، ومن هنا أكد إسماعيل خلف رهانه حين جسّد من على الخشبة وعلى مرأى ومسمع الجمهور، بعرض وتجسيد ثلاث شخصيات «المقاوم والشهيد والحبيبة» على الرغم من كل المشاهد المؤلمة التي نراها على شاشات التلفزة، فأراد «خلف» وببساطة متناهية أن يقدم للمتلقي، صورة أكثر إيضاحاً وإقناعاً وأكثر أملاً أضفت بجوهرها ونوعيتها الجودة على مستوى العرض، وصورت أعمق الأحاسيس البشرية وأطهرها وأنبلها تجاه الوطن والأرض والحبيبة والدفاع عنهم وبذل الروح في سبيلهم.
موسيقا العمل
جاءت عذبة وجدانية، والإضاءة شبه عامة باستثناء لحظات بسيطة استخدمت فيها «السبوتات»، بوجود تمثيل جميل وصادق شفاف مليء بالشجن والحب جسده كل من «باسل حريب» و«إبراهيم الدوخي» و«ربا محمد»، ومن هنا فإن «أنا من هناك» يعد إضافة جديدة تُسجّل للمسرح القومي بالحسكة، بمثابرته الدؤوبة، والمواكبة للحظة في القدرة على تجسيد كل ما هو عصري وجديد بمنتهى الصدق والموضوعية، وهذا حقيقة ما اعتدناه لدى إسماعيل خلف في كل أعماله.
وبيّن مدير ثقافة الحسكة عبد الرحمن السيد، أنه على الرغم من حجم الجراحات الغائرة في الجسد السوري منذ بدء الحرب على البلاد وإلى الآن، ورغم بعد محافظة الحسكة عن المركز، إلا أن حضورها باقٍ وراسخ ويتجدد يوماً بعد يوم، من خلال مختلف أشكال فنونها وصنوف إبداعاتها وعلى مختلف الصعد والمستويات، وأن المشهد الثقافي والفني من خلال الثقافة ومنابرها ومراكزها الثقافية لم يغب يوماً عن ساحة إنسانيتنا ومواقفنا المشرّفة والعادلة، بل كان حاضراً وموجوداً وفي ذروة وخضم الحرب، وما الحضور الفني الذي جاء احتفاءً بيوم المسرح العربي، إلا دليل على مواكبة مسرحيي الحسكة لأشقائهم العرب، في رفد ودعم المشهد الثقافي وتمكينه بالعروض الأشد ملامسة للواقع، ولاسيما نحو أهلنا في غزة البطولة والصبر والمقاومة لدعم طوفانها المجيد في وجه أعداء اللـه والأرض والتاريخ والإنسانية.
بين البقاء والرحيل
من جانبه بيّن الممثل باسل حريب تناول في دوره الشخصية التي تناجي هموم أحد الأشخاص الذاتية، الذين يقررون الرحيل في بداية العرض، لكن عندما يشعر بالخطر الذي ألمّ ببلاده، يقرر العودة والإقلاع عن الرحيل، ليكون شاهداً حقيقياً على حجم الخراب والدمار والمجازر الذي لحق ببلاده، الأمر الذي يشكّل لديه دافعاً، كي يكون في صف المناضلين ضد آلة القتل الغادرة التي لا تكف عن الدوران وإمعان الإجرام والتنكيل بحق أبناء وطنه، وأضاف إن الدور على الصعيد الشخصي كان معقّداً ومتعباً جداً، كما أنه يعتبر مرهقاً لأي ممثل كان سيتصدى له!
بدوره جسد الممثل إبراهيم دوخي شخصية «جواد» وهي شخصية الثائر البطل الذي يقود دفة السفينة، والتي تناولها بتفاصيلها كاتب ومخرج النص «إسماعيل خلف» بحرفية راقية جداً، بينما جسدت الممثلة ربا محمد شخصية أمل وهي شخصية رمزية تمر كطيف أمل من بعد الخراب والدمار الذي حل بالوطن الذي ينتمي إليه أهله في العمل.