تابعت بأسى شديد أوجاع وأحزان الفلاحين والفلاحات في بعض قرى سهل عكار في محافظة طرطوس، في أعقاب غرق حقولهم المزروعة بالبطاطا والخضراوات المحمية والقمح والحمضيات، خسائر كبيرة فردية بملايين الليرات، وجماعية ووطنية بمليارات الليرات ….! والأهم غرق أربعة أشخاص ووفاتهم داخل سيارة.
هرعت جهات عديدة للإغاثة الفورية والمواساة وتفقد الأضرار وتحديد الأسباب واقتراح الحلول لتجنب كارثة، أكد أكثر من مسؤول، أنه لم يكن بالإمكان تجنبها نظراً لشدة الهطلات المطرية التي أدت إلى فيضان نهر الكبير الجنوبي بشكل أساسي ثم أنهار الورد والعروس والأبرش.
وعد وزيرا الموارد المائية والزراعة في سياق إصغائهما لآلام الفلاحين بمساعدات فورية وإجراءات إسعافية.
وصفت الواقعة بالكارثة، وأبكت إحدى النسوة من أصغى إليها وهي تحكي عن فاجعتها، إذ زرعت أرضها بمساعدات من الجيران، وأفقدها الفيضان كل شيء وهي الأرملة وتعيل شباناً يؤدون الخدمة الإلزامية، وكانت تتساءل من أين سأرد للجيران ديونهم؟ ومن أين سأوفر لأولادي احتياجاتهم؟ ويصرخ فلاح آخر عفوياً ويكاد ينتزع شعره من رأسه: خسرت الملايين. كل شيء الآن غال: البذار الفلاحة السماد الري… إلخ.
كنت أصغي إلى شاشة الموبايل وأتذكر كم كتبت عن سهل عكار المتميز في محافظة طرطوس في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إن امتيازه الأهم أنه دافئ في الشتاء، يعطي الخضر الباكورية، ينتج البندورة في كانون الثاني في الهواء الطلق والخيار والكوسا والباذنجان والفليفلة في آذار ونيسان.
كان التبكير ميزة مهمة جداً في التصدير أو الاستغناء عن الاستيراد، لكن الفيضانات كانت العدو الأساسي لهذا السهل.
دعمنا كإعلاميين مطالب الفلاحين وممثليهم ومديري الزراعة المتعاقبين والفنيين والخبراء، وكان رأي الجميع أن سهل عكار كي يتخلص من مآسيه وأوجاعه وآلامه، يحتاج إلى سد يحميه من فيضانات الأنهار المنحدرة نحوه من الجبال، فكان سد الشهيد باسل الأسد على نهري الأبرش والعروس، الذي اكتمل في العام 1997، بعد سبع سنوات من العمل الشاق وتطبيق تقنية الحقن الكاريستي، حقن شقوق الأرض بإسمنت نوعي، وهي تقنية اكتسبها مهندسونا من خلال عملهم في بناء سد 16تشرين الثاني على نهر الكبير الشمالي في اللاذقية.
وفي العام 2000 امتلأت بحيرة سد الباسل في طرطوس، على قمم الجبال، بكامل طاقتها وهي: مئة وثلاثة ملايين متر مكعب من المياه، ولم يقتصر دورها على حماية سهل عكار من مياه الفيضانات، بل إرواء أكثر من عشرة آلاف هكتار من ذاك السهل في الصيف، إذ كان يفترسه الجفاف في الأشهر القائظة ويحرم سكانه من رغد الزراعة.
وقد يقال: كيف فاض إذاً؟
سؤال وجيه، يكمن جوابه في أن الفيضان الراهن والفيضانات المماثلة لم تعد تشمل كامل السهل، ولكن من الواضح أن الحل الجذري لها لا يقتصر على المصارف وتدعيم الساتر الترابي للنهر الكبير الجنوبي، وهو نهر يفصل بين سورية ولبنان ويشكل حدوداً طبيعية بين البلدين الشقيقين.
يجب الانتباه جيداً إلى أنه في نيسان من العام 2002 وقّع وزيرا الطاقة والمياه اللبناني والري السوري، اتفاقية لاقتسام مياه النهر الكبير الجنوبي (60 بالمئة لسورية و40 بالمئة للبنان)، وإنشاء سد عليه في موقع (إدلين- نورا التحتا)، يتسع لسبعين مليون متر مكعب لدرء فيضاناته ولإرواء الأراضي في الصيف ولاسيما أن هذا النهر غالباً ما يجف في ذاك الفصل، ونصت الاتفاقية على أنه تبقى الحدود الدولية الموجودة حالياً بين الدولتين على ما هي عليه وتعتبر مرسومة على سطح الماء مهما يكن اتساع خزان المياه الذي سينشأ بعد إقامة السد، وينجز العمل بالتعاون بين الدولتين وبتمويل ذاتي أو خارجي.
وحددت مدة إنجاز السد بثلاث سنوات.
ومن المؤسف أنه لم ينجز، والأنكى من ذلك أن الجميع قد نسوه!!
لم ألحظ له حضوراً في كل ما قرأت عن فاجعة الفيضان الأخيرة، علما أنه الحل الجذري والنهائي لكل الفيضانات الكارثية القادمة، وأظن أن تطور التقنيات الحديثة، قلص مدة تنفيذه. أنصح وزارتي الموارد المائية والزراعة في سورية بإحياء ملف هذا السد مع الجانب اللبناني فهو في مصلحة الفلاحين في البلدين الشقيقين.