اعتادَ الأميركيون رمي التصريحات المبطنة بوعودٍ برَّاقة من قبيل التشجيع على السلام في الشرق الأوسط فيما تعتبر هي المصدِّر الأول للسلاح إلى هذا الشرق، أو تقديم المساعدات في إطار التنمية المستدامة للدول الفقيرة وهي التي تقوم بالوقت ذاته بسرقة الدول بشكلٍ مباشر، بالوقت ذاته اعتادَ الرؤساء الأميركيون استغلال الشرق الأوسط ليبصموا على نهايةِ حقبتهم الرئاسية كما فعل الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عندما استضافَ مؤتمر انوبوليس للسلام في العام 2007 وجمع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس برئيس الوزراء الإسرائيلي المخلوع أيهود أولمرت والذي بقيت نتائجه رغم صوريتها حبراً على الورق، فيما تغنى بوش الابن يومها مطولاً بالإنجاز الأهم وهو حضور سورية المؤتمر رغم العلاقة شبه المقطوعة معها في حقبته التي أسست فعلياً لقيام شرق أوسط جديد ما زلنا نحصد نتائجه حتى الآن، بالاتجاه ذاته هناك من الرؤساء من قامَ بتوظيف الوضع في الشرق الأوسط في خدمة الماكينة الانتخابية لمعركة الحصول على ولايةٍ ثانية كان آخرهم كما يفعل اليوم الرئيس جو بايدن حسبما نقله المكتب الإعلامي للبيت الأبيض عن اتصالٍ هاتفي تم بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رُغم ما يُحكى إعلامياً عن الخلافات بينهما شدد فيهِ على إمكانية الاعتراف بدولةٍ فلسطينية قابلة للحياة.
بواقعيةٍ تامة فقد جاءَ هذا التصريح في وقته حسب المفهوم الأميركي لأنه جعلَ وسائل الإعلام العربية والغربية تخصص الكثيرَ من الوقت لدراسةِ هذا التصريح الذي لا يبدو جديداً في الشكل لكنه كذلكَ في المضمون وهو أمر منطقي عندما يأتي التصريح من الدولة صاحبة النفوذ الأكبر اقتصادياً وعسكرياً والدولة التي تعتبر الراعي الرسمي لكل انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي، لكن ما ليسَ منطقياً أن نقرأ الكلام المنسوب للرئيس بايدن بالكثير من التفاؤل بتعديلٍ ما في الموقف الأميركي تحديداً بعد أن قلل بايدن فكرة وجود بنيامين نتنياهو من عدمه كعائق لإتمام حل كهذا بصيغتهِ الشاملة ونتجاهل أفكاراً أهم وردت في التصريح قد تكون هي البوصلة نحو فهم الهدف منه والتي يمكننا تلخيصها بما يلي:
أولاً: ماذا تعني عبارة دولة فلسطينية قابلة للحياة؟
لعلَ أول من استخدمَ هذا المصطلح هو الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن خلال ولايته الأولى، يومها جهدت الدبلوماسية الأميركية لشرح وجهة نظر بوش من إضافة هذا المصطلح كأساس لإتمام الحل المنشود، وبمعنى آخر فإن الأراضي الفلسطينية في الضفة أو القطاع ستصبح مترابطة بطريقة لا يستطيع معها أحد منعَ التنقل بينهما، هذه الأراضي ستشكل دولة تتمتع بالاستقلالين السياسي والاقتصادي وسلطة سياسية واحدة بين الضفة والقطاع تطبق قوانين ودستوراً واحداً، لكن مشكلة مصطلحات كهذه أنها غالباً ما تكون بهدف اللعب على الألفاظ الأساسية التي صاغت الحل وفق القانون الدولي، تحديداً أن بوش الابن كان يومها يسوِّق عربياً لغزو العراق وبحاجة لكل ما يبرر الغزو سياسياً، وفي الحالة الشرق أوسطية فإن ابتداع مصطلحات جديدة هدفها قضم الحقوق الفلسطينية والعربية رويداً رويداً على طريقة الكتل الاستيطانية التي قامت بقضم الأراضي الفلسطينية ومن ثم التعاطي معها كسياسة أمرٍ واقع، لذلك لم نعد نسمع شيئاً عن مصطلح «دولة فلسطينية» دونما إضافة مصطلح «قابلة للحياة» لأن هذهِ الإضافة تعني ضمنياً بأن هناك حقاً سيتم سلبه أو أن هناك سيادة سيتم انتقاصها، لكنها مصطلحات الأمر الواقع التي تحاول الولايات المتحدة فرضها حتى على نتنياهو نفسه، تحديداً أن دعوات كهذه لم تقدِّم حلولاً لأبسط المشاكل وعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا كانت حدود هذه الدولة من جهة الأردن ومصر مضبوطة فماذا عن الحدود البحرية؟ هل ستتمتع الشواطئ الفلسطينية بحرية الملاحة؟ ماذا عن البؤر الاستيطانية التي تضم مستوطنين بصبغة عسكرية إجرامية؟ هل سيكونون أشبه بكانتونات ضمن الدولة الموعودة لا يخضعون لقوانينها عبر سياسة أو مبادلة الأراضي التي تبدو مستحيلة في ظل تفشي الاستيطان كما الخلايا السرطانية؟ كل هذه الأسئلة لا جواب لها منذ تم اختراع مصطلح «دولة قابلة للحياة» ولا حتى المبادرات المتنقلة ليسَ لديها جواب!
ثانياً: ماذا يعني مصطلح دولة من دون سلاح؟
يبدو هذا المصطلح هو جزء لا يتجزأ من سياسة المصطلحات التي تهدف إلى تمييع أي فكرةٍ للحل، ربما قد لا يختلف اثنان على أن هناك من يبحث عن أمن الكيان الصهيوني وبالتالي تبدو فكرة دولة من دون سلاح هي من مقومات ضمان هذا الأمن لكن إلى أي حد يمكن تطبيق هذه الفكرة؟ في حال تم الاعتراف رسمياً عبرَ الأمم المتحدة بالعضوية الكاملة لدولةِ فلسطين هل سيكون هناك ملحق للاعتراف بدولة منزوعة السلاح؟ إلى ماذا سيستند المشرِّع الأممي لتطبيق هذه الفكرة؟ إن الحديث عن السلام لا يمكن له بطريقة أو بأخرى جعلَ بلدٍ ما يتمتع بمزايا عن البلد الآخر لكن هل يمكن لهذهِ الشروط الأميركية أن تكون مبسطة مستقبلاً؟!
في واقع الأمر لا بد من الاعتراف بأن ما جرى في غزة على مدى الأشهر الماضية بدَّل الكثير من المفاهيم حتى عند أقرب حلفاء إسرائيل أي الاتحاد الأوروبي، فوزير الخارجية الإسباني مثلاً خوسيه مانويل ألباريس أعلن بأن إسبانيا لن تتنازل عن حل الدولتين وهي تريد الاعتراف بوجود دولة فلسطينية لكنها تتريث فقط ليكون الاعتراف جماعياً، كلام ألباريس كان مشابهاً للهجة وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاترين كولونا التي هاجمت الدعوات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين قبل أسبوعين، يومها قلنا إن تصريحاتها لن تمر مرور الكرام وفعلياً فقدت منصبها في الأسبوع الماضي، هل هي مصادفة؟ لا صدف في السياسة تحديداً إن فكرة الاتحاد الأوروبي تنطلق من بديهية أن تحقيق السلام والاعتراف بدولة فلسطينية سيلغي الكثير من التدخل في الشأن الفلسطيني، لكن هذه الواقعية الأوروبية مازالت تصطدم بلامبالاة أميركية وتعنت إسرائيلي كان آخرها تصريحات بنيامين نتنياهو والتأكيد فيها أن رئيس الوزراء في إسرائيل يجب أن يكون قادراً على أن يقول لا، حتّى لأفضل الأصدقاء، فماذا ينتظرنا؟
ببساطة لن تستطيع كل اجتهادات القانون الدولي أن تبتدع شكلاً لدولة قابلة للحياة على الطريقة الأميركية ما يعني حكماً أن تصريحات بايدن كما مصداقية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العداء للكيان الصهيوني، مجرد تقطيع للوقت واستثمار دنيء لعذابات الآخرين.
كاتب سوري مقيم في باريس