إسرائيل في حربها الهمجية على غزة مستمرة في عملية الإبادة الجماعية، وبعض المحللين يصفونها بـ«التطهير العرقي للفلسطينيين» أو «تطهير البلاد من الأغراب»، كما يقول وزير المال الإسرائيلي الصهيوني المتطرف بتسلئيل سموتريش، وتهجيرهم إلى الخارج.
تُعرَف عملية التطهير العرقي بالقوانين الدولية بأنها «الاستخدام المتعمد للقوة النارية ضد السكان المدنيين، عن طريق القتل المنهجي والعشوائي»، وهذا ما يحدث واقعياً في كل من غزة والضفة الغربية بفلسطين، على ضوء ما نشهده من تداعيات، وتقول الحكومات الأميركية الأوروبية كذباً، إن ذلك مجرد دفاع عن النفس من الكيان الصهيوني.
ومن أمثلة التطهير العرقي في القرن العشرين؛ مذابح الأرمن في تركيا إبان الحرب العالمية الأولى، ويومها لم تقف ضد جريمة الإبادة الجماعية تلك، أي من الدول الكبرى، لدرجة أن الإدارة الألمانية، وكانت فاعلة على الساحة الدولية، قالت إن بقاء تركيا في الحرب أهم بكثير من الدفاع عن الأرمن.
في وسط القرن العشرين تقريباً تم إجلاء عدد ضخم من المسلمين الهنود إلى باكستان وفي الوقت نفسه تم إجلاء عدد ضخم من الهندوس إلى الهند.
الحرب الإسرائيلية الهمجية في غزة والضفة الغربية تتوافر فيها كل العناصر المهيأة للتطهير العرقي؛ حرب إبادة جماعية للمدنيين الفلسطينيين معظمهم من النساء والأطفال وآلاف الجثث تحت الأنقاض، وتشجيع غربي لما تفعله إسرائيل من جرائم، لدرجة أن سباق المرشحين للرئاسة الأميركية، ترافقه المزايدة للإبادة كما تظهر تصريحات المرشحة الجمهورية نيمراتا راندهاوا «نيكي» هايلي، التي أعلنت مساندة «كل ما تقوم به إسرائيل».
إن الحرب الهمجية الإسرائيلية تدفع ملايين المدنيين في غزة إلى جنوب القطاع، في بقعة ضيقة ليس أمامهم إلا الصحراء، وهناك تصريحات إسرائيلية بالتحكم في معبر رفح المصري – الفلسطيني، ووضع اليد عليه؛ تمهيداً لفتحه أمام الفارين المرعوبين والجوعى، وهناك تضييق معيشي وأمني غير مسبوق على كل مدن وقرى الضفة الغربية، وأمام هذا المشهد الصعب والمؤلم، يتزايد النشاط الصهيوني الاستيطاني، مع شح شديد بالمساعدات الإنسانية إن وصلت، وشعور بالإحباط.
في حالة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، احتل مفهوم الدفاع عن النفس لمصلحة إسرائيل المكانة الأبرز في مبررات واشنطن وتوابعها الغربيين لمساندة العدوان من دون قيود، كما استُخدم المفهوم في تبرير فعل جيش الاحتلال المخالف للمعاهدات الدولية المنظِّمة للحروب؛ مثل: تجويع السكان ومنع الماء والوقود والعقاب الجماعي، وتدمير المستشفيات والبنية التحتية المدنية، وهدم المنازل على سكانها، واستخدام أسلحة محظورة دولياً، واعتقال عدة آلاف من أهل غزة من دون معرفة أدنى معلومة عن مصيرهم، ولم تتخلَّ واشنطن عن منح الجيش الإسرائيلي آلاف القنابل والصواريخ، للاستمرار في حرب الإبادة، رغم الحديث المتواتر عن خلافات في الرؤية بين تل أبيب وواشنطن، ما زال العدوان قائماً وعداد الشهداء الفلسطينيين يتصاعد، والتدمير المنهجي في القطاع هو سيد الموقف، ولكن بات من الضروري التجرؤ على الردع الأميركي، سياسياً وأمنياً، والدافع هو الاعتقاد الجازم بأن فرصة الإطاحة بالهيمنة الأميركية عالمياً تبدو سانحة.
رفعت جنوب إفريقيا دعوى ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية للفلسطينيين قائلة إن إسرائيل تنتهك اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الإبادة الجماعية من خلال «قتل الفلسطينيين في غزة، وإلحاق الأذى الجسدي والعقلي الخطير بهم، وإخضاعهم لظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسدياً»، مع المطالبة بالوقف العاجل للحرب التي تشنها إسرائيل.
ووصفت إسرائيل الدعوى بأنها «استغلال مهين» للمحكمة، وإسرائيل المعتدية اتهمت جنوب إفريقيا بلعب دور «محامي الشيطان» لمصلحة حركة «حماس» التي تشن حرباً ضدها في غزة!
تُعرف معاهدة الإبادة الجماعية بأنها «الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية»، وقد اعتمدت الأمم المتحدة مصطلح الإبادة الجماعية بعد وقت قصير من إنشائها في عام 1945، والوثيقة المقدمة للمحكمة الدولية مكونة من 84 صفحة وتنص على أن «أفعال إسرائيل، في أعقاب هجمات 7 تشرين الأول 2023، هي إبادة جماعية بطبيعتها لأنها تهدف إلى تدمير جزء كبير من المجموعة الوطنية والعنصرية والإثنية الفلسطينية»، كما أن القضية تقارن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بفترة الفصل العنصري الخاصة بها.
تتمتع جنوب إفريقيا بعلاقة صداقة طويلة الأمد مع الشعب الفلسطيني، وبعد إطلاق سراح نيلسون مانديلا من السجن وأصبح رئيساً لجنوب إفريقيا، قال: «نعلم جيداً أن حريتنا غير مكتملة من دون حرية الفلسطينيين»، وارتدى لاحقاً الكوفية التقليدية في حدث بالجزائر عام 1990.
إسرائيل أرسلت فريقاً قانونياً للدفاع عن نفسها في لاهاي، ووصفت جنوب إفريقيا بأنها «منافقة» والدعوى القضائية بأنها «تشهير دموي»، وهو مصطلح يستخدم للادعاءات الكاذبة المعادية للسامية ضد الشعب اليهودي.
وعلى الرغم من أن قرارات المحكمة ملزمة قانوناً، فإنه لا يتم الالتزام بها دائماً، هكذا فإن أحفاد مانديلا يقاضون الإجرام الصهيوني؛ وأكثر ما تخشاه إسرائيل هو الإدانات الدولية، وبينما يعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن ما تقوم به إسرائيل في غزة لا يرقى إلى مستوى جرائم الإبادة، تتقدم دولة شجاعة مثل جنوب إفريقيا بدعواها ضد إسرائيل متحدية كل الضغوط.
ولهذه الدعوى رمزيتها الخاصة، لأن جنوب إفريقيا كانت آخر دول الأبارتايد، الفصل العنصري، في العالم، قبل أن تصبح دولة الإنساني الملهم نيلسون مانديلا، ورمز النهايات المستحقة لدول الظلم والعنف والاضطهاد.
أحفاد مانديلا لم يسقطوا يوماً مقولة زعيمهم نيلسون مانديلا: «إن نضالنا لا يكتمل إلا بتحرر فلسطين»، لذلك؛ فإن دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل متهمة إياها بـ«الإبادة الجماعية»، هي ثمرة نضج، لتماهٍ بين تجربتين دمويتين، لشعبين، ربط بينهما الظلم، وقهرتهما العنصرية.
بتاريخ 19 كانون الثاني الجاري، تم الإعلان بأن المكسيك وتشيلي أحالتا الصراع في غزة للمحكمة الجنائية الدولية، بينما كانت دعوى جنوب إفريقيا المقدمة لمحكمة العدل الدولية تسرد بالتفصيل ما ارتكبته إسرائيل في غزة، من جرائم الهدف منها القضاء على مجموعة بشرية لها خصوصيتها، والتخلص منها.
إن إسرائيل تتدحرج سمعتها وتنهار صورتها، وفي هذه المرة، لا تستطيع أن تدير ظهرها كما فعلت مع مئات القرارات الأممية التي أدانتها، وتأتي أهمية هذه القضية كونها من دولة جنوب إفريقيا، التي تعرّض شعبها إلى أبشع أنواع الحكم والفصل العنصري، وهو يشبه إلى حد كبير جداً لما يحصل بحق الفلسطينيين اليوم مع الاحتلال والحصار الإسرائيلي.
إسرائيل لم تعترف بالقرارات الأممية الدولية كافة التي صدرت بحقها ولم تنفذها أو تكترث بها، لكنها هذه المرة مطوقة بالرأي العام العالمي الذي يساند الدعوى القضائية لأحفاد مانديلا ضد إسرائيل ويتهمها بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي للفلسطينيين.
وزير وسفير سوري سابق