ثقافة وفن

اليوم العالمي للغة العربية… هل تحقق الاحتفالية احتفاء لائقاً باللغة؟! … تكريم اللغة في يومها بحضور لغوي فقط!!

| عامر فؤاد عامر

أن يكون هناك يوم للاحتفال بعالميّة اللغة العربيّة، هو دليل ومؤشر للبحث في مفهوم هذه العالميّة المقصودة، والذي يأخذنا في رحلة مهمّة من الخطوات نحو الماضي الذي عاشته هذه اللغة الجليلة، والقدم الذي حققته عبر قرون كثيرة؛ جعلت منها وسيلة ترك من خلالها أبناؤها الكثير من العلامات المميزة في تاريخ البشريّة.
اليوم العالمي للغة العربيّة حددته الأمم المتحدة في عصرنا الحديث بتاريخ 18 كانون الأول من كلّ عام اعترافاً منها بقوّة وأهمية ومميزات هذه اللغة غير المتوافرة في لغات أخرى كثيرة، ومن النقاط التي أثيرت في احتفاليّة اللغة العربيّة التي أقامها مجمع اللغة العربيّة في دمشق وجود العربيّة بقوّة في بلاد الشام من خلال قبائل عربيةً مستقرةً في باديتها وفي بعض قراها مثل طيء في حوران، وتميم وبكر وربيعة في المنطقة الفراتيّة.

كما أنهم وجدوا ثقافة آراميّة عريقة أنتجت مؤلفات علميةً عديدة معظمها باللهجة السريانية تُرجِم أكثرها عن اللغة الإغريقيّة. فأفادوا من الفكر الفلسفي اليوناني في كتب أفلاطون وأرسطو، ونقلوها من السريانيّة إلى العربيّة للتعمّق في فهمها، وتلك النقاط هي ما أشار إليها الدكتور «مروان المحاسني» في افتتاحيته لهذه الاحتفاليّة وأضاف أيضاً: «… ومن بلاد الشام انتشرت ثقافةٌ عربية إسلامية على رقعة واسعة غمرتها روحانيات هذا الدين الجديد، المحمولِ على لغة متكاملة النظام غمرت فارس وخراسان وبخارى وخوزستان وصولاً إلى السند، وهي لغة انتشرت عن طريق المنابر أكثر مما انتشرت عن طريق السيوف، فَغَدت لغةَ تلك الأقوام في صلواتهم، وأنشأت علاقات وارتباطات مجتمعية بين أفرادهم مؤكدة قيمة إنسانيتهم..». وقد أضاف الدكتور المحاسني مجموعة من الأفكار التي تشير للإنجازات العلميّة المؤثرة في العالم والتي قدّمها العرب بلغتهم وما زالت علامة في تاريخ العلم الإنساني فيقول: «كانت أوروبا ناشئة تحت حكم شارلمان، وهو زعيم إحدى القبائل الجرمانية (الفرنجة) نَصّب نفسه إمبراطوراً على أوروبا الغربية، وقد عرفوا وجودَ حضارة برّاقة في المشرق عندما أرسل هارون الرشيد لشارلمان تلك الساعة المائية التي أدهشتهم بدقتها وحسن صنعها، وهي مماثلةٌ للساعة التي كانت تحدّد أوقات الصلوات في مدخل المسجد الأموي بدمشق. فقد عرفوا وجودَ عالميةٍ مشرقية تكتنف الأرض من ضفاف الأطلسي إلى قلب آسيا حتى الصين، تسودها لغةٌ واحدة وينتظم حكمُها تحت نواظمَ أتى بها كتاب سماوي. وعادت أوروبا إلى الانبهار في القرن العاشر الميلادي حين وصلت إليها فلسفةُ الإغريق مكتوبةً باللغة العربية: كُتُبُ أفلاطون وأرسطو. فقد أعجبوا بشروح ابن رشد لأرسطو وأطلقوا عليه اسم الشارح، لأنهم وجدوا في هذه الشروح نظرةً إلى الفلسفة أوضح مما كان يكتبه المدْرَسيّون الذين غيّبوا في شروحهم قيمةَ العقل البشري هادياً لبني الإنسان وأدخلوهم في غَيْبيّات لا سبيل إلى فهمها…. لقد أصبحت علوم العرب بعد القرن العاشر عالميةً يقرأها رجال العلم في أوروبا، كما تُناقشها الحلقات العلمية في الجامعات التي أُسست في ذلك العهد. وقد شارك العرب في إنشاء تلك الجامعات كجامعة مونبيليه في فرنسا، وهذا ما نعتبره موقعاً علميًّا عالميًّا… فقد دُرّست كتب ابن سينا الذي أضاف شرحين على كتب جالينوس ناقداً ما رآه فيها من أمور تتناقض مع ما وجده بنفسه حين تشريح جسم الإنسان، وذلك إضافة إلى خبرة أخذها في ممارسته الطبية فيما يتعلق بتشخيص الأمراض ومعالجتها.
في محاضرة للدكتور «محمود السيد» بعنوان «عالميّة اللغة العربيّة» استعرض مجموعة من النقاط كانت حول معايير عالميّة اللغة، وعدد المتكلمين بها، وعن أشهر الإحصائيات في ذلك، وقائمة باللغات العشر الأكثر انتشاراً من حيث عد المتكلمين فجاءت العربيّة في المرتبة الرابعة بعد الإنكليزيّة والصينيّة والهنديّة، ونسبة المتكلمين بها هي: 6.6%.
وفي جانب آخر أوضح «محمود السيد» شيئاً من معايير عالمية اللغة من حيث عدد المتكلمين بها فبيّن أنها في المرتبة الرابعة من حيث معيار عدد الناطقين الأصليين، وفي المرتبة الخامسة من حيث معيار عدد الناطقين الثانويين، وفي المرتبة الثالثة من حيث معيار عدد البلدان التي تعتمد اللغة لغة رسمية، وفي المرتبة الثانية عشرة من حيث معيار المحتوى على الشابكة (الإنترنت)، وفي المرتبة السادسة من حيث معيار اعتمادها لغة رسمية في الأمم المتحدة.
وفي باب عراقة اللغة العربية ذكر أيضاً فتراتٍ ثلاث هي الفترة الأولى منذ أربعين قرناً (هجرة الأكاديين والآشوريين والبابليين… الخ من موطنها الأول، ونقلت معها لغتها) والثانية إبان الفتح الإسلامي في العهد الأموي: تعريب الدواوين في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان. والثالثة الترجمة في العصر العباسي ولاسيما في عهد الخليفة المأمون وإنجازاته فيها.
ومن النقاط التي تحدّث بها الدكتور «محمود السيد»: الاهتمام العالمي بالمحتوى الرقمي العربي، وذلك في المنظمات الدوليّة التابعة للأمم المتحدة، وفي عدد من الدول: كأميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وسويسرا، والاتحاد الأوروبي، والصين، وروسيا، والهند، وماليزيا، والكيان الإسرائيلي. وأيضاً في شركة جوجل وزيادة نسبة المحتوى الرقمي العربي على الشابكة…
في صمود اللغة العربية عبر العصور أمام التحديات أشار الدكتور «السيد»: إلى فترات الحروب والاحتلالات في فترة المغول والتتر وحروب الفرنجة والاستعمار الغربي ومحاولات استبعاد العربيّة بما في ذلك التتريك والفرنسة وغيرها. وقد استشهد في عدد من الأمثلة صمود العربيّة بسبب مضمونها الحضاري وصون القرآن الكريم لها، وإشارة للكاتب الإسباني (كاميلو خوسيه سيلا) الحائز جائزة نوبل عام 1989 الذي رأى أن اللغات القادرة على الصمود في وجه تغيرات العصر أربع هي: الإنجليزية- الإسبانية- العربية- الصينية. والكاتب الفرنسي الرحالة جول فيرن وما أشاد به حول العربيّة. وفي جانب من المحاضرة بيّن الدكتور السيد مميزات اللغة العربية بين لغات العالم فشرح عن أصواتها وحروفها وسعة مفرداتها ودقة تعابيرها، وصفة الإيجاز، والتميز في إعرابها، وفي الاشتقاقات الخاصة بها فهي لغة ولادة ومواكبة لروح العصر. وفي نهاية محاضرته استعرض آراء لعدد من العلماء الغرب حول مكانة العربيّة وقوتها وتميزها بين لغات العالم منهم العالم الفرنسي آرنست رينان، والعالمة الألمانية «زغريد هونكة» والعالم الأميركي «ريتشارد كوتهيل» وغيرهم من الأسماء المعروفة عالميّاً.
وفي الجزء الأخير من الاحتفاليّة كانت محاضرة للدكتور «موفق دعبول» بعنوان اللغة العربيّة والعلوم. وقد تحدّث عن الفترة الزمنيّة التي تبدأ منذ محمد علي باشا إلى يومنا الحالي وطرح مجموعة من الأسئلة حول: مقدرة العربيّة في التجاوب مع التطورات العلميّة السريعة واستيعابها للمصطلحات الغزيرة التي تولد يوميّاً، وهل اللغة العربية صالحة للتدريس عموماً وللجامعي خصوصاً؟ وهل اللغة العربية قادرة على أن تفرض نفسها لغة عالمية؟ وهل نبقي الحروف العربية على ما هي عليه، أم نسلك سبيل تركيا ونستعمل الحروف اللاتينية بدلاَ من الحروف العربية؟ وهل ما نعانيه من تخلفنا المرتبط بهذا الموضوع هو علة في اللغة أم هو علة في أبناء الأمة العربية؟ وغيرها من النقاط المهمة جداً.
حركة نقل العلوم عند العرب

حظي العلماء والمترجمون حظوة مميزة لدى المأمون، ومما يروى في هذا الصدد، أن المأمون كان يتجول مع ثابت بن قرة في حدائق قصره… وكانا يتبادلان الحديث حول مسائل علمية. كان المأمون يضع يده على كتف ثابت.. وفجأة رفع يده، ما جعل قلب ثابت يتطاير خوفَا من أنه تجاوز الحدود في حواره مع المأمون. فسأل المأمون يستفسر عن سبب رفع يده، فأجابه المأمون معتذرَا وقائلاً: أنه لا يجوز أن يعلو على العلم أي شيء. فالعلم يعلو ولا يعلى عليه. من الطريف أن المأمون كان يعطي المترجم مقداراً من الذهب، زنة ما ينقله من الكتب إلى اللغة العربية. ولعل ذلك كان السبب في أن بعض هذه الترجمات كانت تكتب بحروف كبيرة وبخط غليظ، وفي أسطر متفرقة ومما يذكر أن الخوارزمي وضع في بيت الحكمة كتابه في علم الجبر والمقابلة، كما قاس أبناء شاكر للمأمون محيط الأرض، وذلك عن طريق قياس دائرة نصف النهار في صحراء سنجار، وكان تقديرهم لهذا المحيط قريباً من طوله الحقيقي. وقد بذلت عناية خاصة في علم النجوم وأدوات مراقبة حركتها ومواقعها في السماء. كل ذلك، إضافة إلى تأليف كتب كثيرة في النجوم، ومقالات في تركيب العطور، ورسائل في الأطعمة والأتربة وغيرها. ولعل مما يستحق الذكر هو الدعم الذي قدمه المجتمع المدني الأهلي لعملية التعليم والبحث العلمي. لم تكن الدولة تنفق من مالها شيئاً على هذه العملية، ولا تخصص أي باب في ميزانيتها باستثناء ما يمنحه الخلفاء والأمراء والأغنياء. وفي مقابل ذلك لم تتدخل الدولة في وضع منهج أو مراقبة لعلم أو عالِم، إلا أن يُتّهم بالزندقة.

الترجمة في العصر الحديث
وقد ذكر د.حسام الخطيب في أحد مؤلفاته عام 1989 وجود 3000 كلمة عربية في أحد معاجم اللغة الإنكليزية وجاء في كتاب «شمس العرب تسطع على الغرب» للمؤلفة المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة وجود أكثر من 250 كلمة عربية دخلت اللغة الألمانية وأما في اللغة الإسبانية ففيها ما يقرب من 17% من مفرداتها هي مفردات عربية. وكذلك فإن الكثير من المفردات العربية دخلت الفرنسية والإيطالية والبرتغالية. عدد المفردات العربية تبلغ نصف محتويات القاموس الأندنوسي، كما تبلغ في بعض الكتب الفارسية ما يتجاوز خمسين بالمئة. يضاف إلى ذلك دخول الكلمات العربية للغات الشرقية الأخرى كاللغة التركية مثلا.
وفي ميدان آخر ذكر الدكتور «موفق دعبول» عن ميدان التأليف والإبداع، وعن علماء العرب في الفلك والرياضيات والطب الذين ما زالت إبداعاتهم مؤثرة في لغات العالم كالخوارزمي والبتاني والبيروني والإدريسي، وابن الهيثم وابن سينا وابن رشد وابن زهر والمزيد من الأسماء التي لا تُمحى من الذاكرة الإنسانية.

أين نحن الآن من شأن اللغة العربية مع العلوم؟
كان هذا العنوان هو السؤال الذي اختتم به الدكتور «موفق دعبول» محاضرته فقال: «قيل الكثير عن هذا الموضوع، وما زال الجدل مستمراً، فهناك من يرى ضرورة استعمال العربية أداة للتعليم في جميع مراحله وأداة للبحث العلمي في مختلف مستوياته، ويرى في ذلك ضرورة قومية، يفرضها صدق انتمائنا إلى أمتنا العربية وتاريخها المجيد، وفي المقابل هناك من يرى أننا في هذه المرحلة سنبقى عاجزين عن اللحاق بركب العالم المعاصر إذا ما ألححنا على التمسك باللغة العربية… في قناعتي أننا في حالنا هذا لا نعدو تلك الحالة التي أتى على ذكرها ابن خلدون في مقدمته، وهي أن الأمة المغلوبة تحاول تقليد الأمة الغالبة في حل أمورها معتقدةً أن ذلك سبيلها في النجاح.. ولعل ابن حزم أشار إلى هذه الظاهرة عام 456 هـ بقوله: إن اللغة يسقط أكثرها بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم، وإنما يُبقي لغة الأم وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها. وأما من تلفت دولتهم وغَلب عليهم عدوهم فمضمون منهم موت الخواطر، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم، وهذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن