سرى في أعقاب نهاية الجولة العشرين من «مسار أستانا» التي انعقدت شهر حزيران الماضي بالعاصمة الكازخستانية حديث عن «موت المسار» بعد أن فسر البعض إعلان نائب وزير الخارجية الكازخستاني كانات توميش، عن أن «هذه الجولة هي آخر الجولات التي ستنعقد على الأراضي الكازخستانية»، وأضاف: إن الهدف من المسار «قد تحقق» ولم يعد هناك من «ضرورة لعقد جولات أخرى»، والتصريح كان إشكالياً فعلاً، والراجح في تفسيره هو اختلاف الرؤى بين العاصمة التي ارتبط المسار باسمها وبين «القيمين» على هذا الأخير الذين ظلوا على قناعتهم بأن استمرار «المسار» يمثل استمراراً للتفاهمات بين الدول الضامنة، وهو يضمن تحقيق استقرار نسبي للوضع السوري، ناهيك عن أن استمراره يؤكد عدم وجود تدوير للزوايا ناجم عن تغير في الرؤى بين أطرافه الثلاثة الضامنة، الأمر الذي كانت لـ«نور سلطان» رؤية مغايرة حوله قبيل أن تغيّر هذه الأخيرة وجهة نظرها السابقة بعد اتصالات حثيثة بينها وبين موسكو، لتعلن من جديد أن «لا مانع لديها» من عقد جولات جديدة في سياق المسار الذي احتضنته منذ عام 2017.
أعلنت وزارة الخارجية الكازخستانية في بيان لها يوم الجمعة 19 كانون الجاري عن عقد جولة جديدة من «مسار أستانا» يومي الأربعاء والخميس القادمين، وأضاف البيان أن جدول الأعمال سيتضمن «تطورات الوضع الإقليمي في محيط سورية، وآخر التطورات الميدانية، وجهود التوصل إلى حل شامل، والوضع الإنساني»، وكذا «حشد جهود المجتمع الدولي لتسهيل إعادة إعمار سورية بعد النزاع»، والمؤكد هو أن جدول الأعمال هذا يأتي استكمالاً للبيان المهم الذي كان قد صدر في أعقاب الجولة السابقة، فقد شدد على «إدانة ممارسات الدول الداعمة للكيانات الإرهابية في الشمال السوري»، وعلى أن «الأمن والاستقرار في تلك المنطقة قابلان للإنجاز فقط على أساس الحفاظ على وحدة الأرضي السورية واستقلالها» مع تأكيد وجوب «العمل المشترك لمكافحة الإرهاب ورفض الأجندات الانفصالية والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية»، ومن الواضح أن جدول الأعمال للجولة المقبلة، الذي حدده بيان الخارجية الكازخستاني، ينطلق من هذه الثوابت الأخيرة نحو خلق فضاءات أفضل للعمل السياسي في تغليب يبدو واضحاً على نظيره العسكري، وتلك تُمثل صلب الآلية التي قام عليها «المسار» برمته عبر الربط بين السياسة والتطبيق في الميدان.
تشير المعطيات إلى أن موسكو لم تكن ترغب في عقد جولة جديدة أقله في الظروف الراهنة، وهو ما يؤكده تصريح ديبلوماسي روسي لجريدة «الشرق الأوسط» قبل يومين حين قال إن موسكو كانت «تفضل ألا يتم التسرع بتحديد موعد للجولة الجديدة من المفاوضات وخصوصاً على خلفية تفاقم التوتر في المنطقة، وانشغال العالم بالوضع في غزة، والتطورات في البحر الأحمر، والمخاوف من اتساع رقعة الصراع الدائر»، قبيل أن يضيف أن بلاده «لا يمكن لها أن تعارض الجهد الذي بذله المبعوث الدولي لحل الأزمة السورية»، والراجح هنا هو أن موسكو لم تمارس أي ضغوط لتأجيل انعقاد الجولة الـ21 من مسار «أستانا» لعل الفعل يفضي إلى حدوث اختراق «من نوع ما» في مسار التطبيع السوري التركي الذي توليه اهتماماً بالغاً، وتراه خطوة متقدمة على طريق إنجاز «70 بالمئة من الحل السوري»، وفقاً لقول نقله معارض سوري عن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف صيف العام الماضي.
كان التركيز في الجولة العشرين السابقة من المسار على «إعادة بناء الثقة» ومن المؤكد هو أن المقصود بالأمر هو كل الأطراف الداخلة في الصراع الداخلية منها والخارجية، والمؤكد أيضاً أن الفعل لم يحقق الكثير من النتائج المرجوة منه، فلا الثقة بين الأطراف الداخلية تعززت ولا نظيرتها الخارجية فعلت أيضاً، ولربما كانت وجهة النظر الروسية هي الأقرب للدقة لجهة تقديرها بأن الظروف لا تبدو مواتية لعقد جولة جديدة من الصعب لها أن تحقق الكثير في ظل هذه المعطيات، إلا إذا كان المراد من الفعل نقض نظرية «موت المسار» بدليل عملي، لكن يبقى الرهان الروسي في إمكان حدوث اختراق على طريق دمشق أنقرة هو الفعل الوحيد الذي من الممكن له، فيما لو حصل، أن يؤدي إلى نجاح ما يمكن أن يراكم مكاسب في مسار باتت «مشروعيته»، وجدواه، على المحك، فطول «عمر المسار» الذي يشير البعض إلى أنه يمثل «قدرة لافتة» على الاستمرار في ظل التضارب الحاصل في المصالح والرؤى بفعل المتغيرات، يمكن له أن يصبح ذا طابع «تسكيني» فحسب، بمعنى أن يكون قادراً فقط على منع الاحتقان من الوصول لدرجة الانفجار، وذاك أمر قد ينزع عن الآلية، سابقة الذكر، التي تقوم على الربط بين السياسة والتطبيق في الميدان، «مشروعيتها»، فيحيل المسار برمته إلى «عبء» في مسار التسوية السياسية للأزمة السورية التي تقف على مشارف «ربيعها» الثالث عشر.
كاتب سوري