تحول فجأة العديد من دول المنطقة للحديث عن مكافحة الإرهاب، كأولوية قصوى، وتصدرت الشاشات في التصريحات، وتوجيه الاتهامات للغير، دون أن تقف للحظة مع نفسها، وتسأل: هل جوهر المسألة في النتائج، أم الأسباب؟ ذلك أن أي تناول لظاهرة من جانب علمي- تحليلي، يجب أن يذهب مباشرة إلى جوهر هذه الظاهرة لأن من يتحدث عن مكافحة الإرهاب دون التطرق لما حدث في سورية طوال ثلاثة عشر عاماً، هو كمن يذر الرماد في العيون للتعمية عن الحقائق التي يجب أن تُقال بوضوح شديد من دون مواربة أو نفاق، وحديثي هنا لن يتطرق لبيان الخارجية الأردنية الأخير الذي يتبرأ بشكل ملتبس من الأعوام الأولى للعدوان الفاشي على سورية وشعبها، ومن غرفة الـ«MOK» التي كانت تدير العمليات، والتسليح على الحدود الجنوبية لسورية بشهادة ووثائق مصادر كثيرة وعديدة، أقلها وزير الخارجية القطري الأسبق حمد بن جاسم وشهاداته المعروفة لموقع «القبس الكويتي».
البيان الأردني يتحدث عن الفوضى والعصابات المسلحة، وتهريب المخدرات من دون أن يدركوا أن هناك أسباباً لكل ذلك، وهذه الأسباب التي يريدون تجاهلها وتحميلها للدولة السورية لم يعد بالإمكان تجاوزها، والقفز عليها، ولابد من التنسيق والعمل المشترك للقضاء على هذه الظاهرة، التي قالت سورية منذ البداية إنها ستهدد السلم والأمن الإقليميين لأن بث الفوضى ودعمها والسكوت عنها، وإضعاف مؤسسات الدولة لحساب قوى جاهلة مرتبطة، ممولة من الخارج، وإجرامية، لا يمكن أن تحقق الاستقرار المنشود، وحرص سورية على عودة المياه إلى مجاريها مع الدول العربية، وطي صفحة الماضي لا يعني أبداً عدم تذكير الأشقاء والجيران أن العلة في الأسباب التي ساهمتم بصناعتها، والآن ترفعون الصوت بالحديث عن النتائج والتبعات، وكأن الدولة السورية هي من خلقت الفوضى، ومولتها بأكثر من 137 مليار دولار، حسب حمد بن جاسم، وأقامت غرف العمليات لتديرها أجهزة المخابرات الغربية وسفاراتها، وعلى رأسها جهاز الـ«سي آي إيه»، لذلك دعونا نتحدث بصراحة ووضوح شديدين، إنه لا إمكانية لمكافحة الإرهاب إلا من خلال التنسيق المباشر، والتخلي عن نظريات وسيناريوهات إضعاف الدولة السورية، والشعب السوري، والتذاكي لفرض حل سياسي لم يكن ممكناً في عز الحرب والقتل والدمار.
الحديث عن الأشقاء في الأردن، وبيانهم الأخير ينسحب شمالاً نحو تركيا التي تحدث رئيسها رجب طيب أردوغان في 16 كانون الثاني الجاري عن أن تركيا لن تسمح بإقامة ما سماه «إرهابستان» على امتداد حدودها الجنوبية، ولن توقف عملياتها ضد الإرهابيين قبل محو آخر واحد منهم، انطلاقاً من الدفاع عن أمنها القومي!
حديث أردوغان جاء بعد مقتل 32 جندياً تركياً في عمليات لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق ضد قواعد عسكرية تركية هناك بتاريخ 23 كانون الأول الماضي، و12-13 كانون الثاني الجاري، وجرت العمليات بالأسلوب نفسه والطريقة ذاتها، الأمر الذي دفع محللين عسكريين أتراك للقول إن العمليتين تفوقان قدرات «PKK» على التنفيذ، وإن الوصول للقواعد العسكرية التركية في ظروف مناخية صعبة يحتاج لمساعدة طرف ثالث، ويرجحون أن تكون شركات أمنية مزودة بأجهزة حديثة، وتعمل لمصلحة الولايات المتحدة في المنطقة هي التي قدمت المساعدة، متهمين أميركا وإسرائيل بالوقوف وراء العمليتين من أجل إخراج تركيا من العراق، ثم نقل الإرهاب للداخل التركي.
الصحف الموالية للحزب الحاكم اعتبرت أيضاً أن كلام أردوغان عن «إرهابستان» إنما هو توجيه تحذير لـتل أبيب، وواشنطن الداعمتين الأساسيتين لـ«PKK»، وأن واشنطن تعمل على فتح كوريدور إرهابي من العراق إلى البحر المتوسط، لا بل اعتبر أردوغان أنه: «ما دامت خطط الإمبرياليين (والتعبير له وليس لي) لإقامة «إرهابستان» في العراق وسورية مطروحة على الطاولة، فلن يشعر أحد منا بالأمان، وأن العمليات التركية الخارجية أفشلت مخططات الساعين لتغيير الخرائط في المنطقة»، وتابع القول: «ما دامت الوعود التي قطعت لنا (لتركيا) لا تنفذ، فلا يحق لأحد الاعتراض على تدابير تركيا من أجل أمنها، ولا ينبغي لأحد أن يتوقع من تركيا أن تبقى متفرجة على دعم هؤلاء الأوغاد الانفصاليين بذرائع مختلفة»!
كلام أردوغان الذي يتحدث عن النتائج أيضاً وليس الأسباب، يدفعنا لطرح جملة أسئلة لا مناص من طرحها:
1- هل كان هناك إمكانية لنشوء خطر الكوريدور الإرهابي من العراق للمتوسط لو لم تتورط تركيا نفسها بمشروع الحرب الفاشية على سورية منذ عام 2011، وتسهيلها لدخول آلاف الإرهابيين، وتنظيم وإدارة عملياتهم من خلال غرفة الـ«MOM»، وهذا أمر أصبح موثقاً ومعروفاً؟!
بعد تورط تركيا اكتشفت أن الأميركيين أخلّوا بما تم الاتفاق معها بشأنه في مشروع الشرق الأوسط الجديد، وأن مرتكز السياسة الأميركية في المنطقة انتقل نحو الكرد (شمال العراق، شمال شرق سورية، جنوب شرق تركيا، وغرب إيران)، أي مشروع إسرائيل الثانية الذي يهدد الأمن القومي في كل من سورية، العراق، تركيا، إيران، إذاً: ما العمل؟
2- إذا كنا نقر بالدعم الأميركي- الغربي للأوغاد الانفصاليين حسب تعبير أردوغان، فالسؤال هنا: ماذا عن الأوغاد الآخرين في إدلب من التركستان، الذين عقدوا مجلس شورى لهم قبل أيام يهددون ويتوعدون كل من يخالفهم؟ وماذا عن الأوغاد في جبهة النصرة، فرع القاعدة في سورية، وماذا عن الأوغاد الذين يرفعون العلم التركي، ويدعون المعارضة للدولة السورية؟ وماذا عن الأوغاد الذين يقومون بفرض التغيير الديموغرافي، والمناهج التركية، والليرة التركية، ثم يدعون أنهم معارضة سياسية؟!
الحقيقة أن الأسئلة أكثر من أن تعد وتحصى، وإذا كنا لا نريد نبش هذا الماضي الأسود تجاه أي كان، ونتطلع لعلاج النتائج التي تسبب بها تورط العديد من دول الجوار في دعم الإرهاب الدولي المعولم، المتعدد الجنسيات ضد سورية وشعبها، فإن المواجهة لهذا الإرهاب لا يمكن أن تتم إلا بالتنسيق المباشر بين الدول المعنية، وعلى رأسها سورية التي دفعت الثمن الأغلى في مواجهة القتلة والمجرمين، وبالتالي فإن مكافحة الإرهاب تحتاج للنظر إليه بعينين وليس بعين واحدة، إذ لا يمكن اعتبار تنظيمي «حزب العمال الكردستاني-PKK» و «حزب الاتحاد الديمقراطي-YPG» إرهابيان يجب مكافحتهما ومواجهتهما، وغض النظر عن التنظيمات المنتحلة صفة الإسلام في إدلب من التركستان والقوقازيين والأوزبك وأيضاً السوريين، وكلما تأخر التعامل مع هذه التنظيمات المختلفة كلما زاد خطرها، وزادت إمكانية استئجارها، واستثمارها لمصلحة دول مختلفة على رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
في 18 كانون الثاني الجاري كتب الصحفي التركي محمد تشليك مقالاً في صحيفة «ديلي صباح» أقر فيه بصعوبة مكافحة الإرهاب، واعترف أن الدعم الذي يقدم للمنظمات الانفصالية يتم علناً تحت ستار قتال داعش، وأن هذا الدعم يقدم ممن سماهم حلفاء أنقرة الغربيين، أي أميركا والاتحاد الأوروبي!
إذا كانت أنقرة تعرف من يدعم ويمول فلماذا لا تزال تناور، وتستخدم تكتيكات لن تجدي نفعاً مع الغربيين؟ فعدد المسؤولين الأميركيين والأوروبيين الذين قدموا وعوداً لها أكثر من أن يحصى، لكن دون فائدة تذكر! والحقيقة التي يجب أن يعرفها الأتراك أن مواجهة «إرهابستان» لا يمكن أن تتم إلا بعد الاعتراف بالأسباب، وليس الحديث عن النتائج، وكذلك الإقرار بأن الإرهاب واحد بشكله الانفصالي، أو المتطرف الديني، ومحاربة جزء دون الآخر هي كمن يدفن رأسه بالرمال، فالأمن القومي لدول المنطقة واحد ومتكامل، والإخلال به من أي طرف سينعكس سلباً على الطرف الآخر، والحل لن يكون إلا بفتح قناة دمشق- أنقرة، والتوقف عن الدوران في حلقة مفرغة، وعن التعاطي بطريقة استعلائية، أو طرح الشروط السياسية المرفوضة من دمشق.
خطر المشروع الانفصالي بات واضحاً من شمال العراق، وشمال شرق سورية، وكذلك خطر المجموعات الدينية المتطرفة سيزداد أكثر، وبقاؤها دون معالجة هو كمن يترك الجمر تحت النار، ولن يستفيد منه أحد.
العمل على التنسيق الأمني- العسكري بين سورية، تركيا، إيران، وروسيا قد يكون هو الحل، أي إحياء ما اتفق عليه في أيار 2023، في اجتماعات موسكو، وغير ذلك مجرد سراب في الصحراء.
كاتب سوري