الصمت السوري بين التراجع الأميركي والانفتاح العربي.. هل أميركا جادة بالانسحاب؟
| فراس عزيز ديب
كلما ظنّ البعض بأن الحدث السوري تراجع وسطَ ما يعيشه هذا العالم من متقلباتٍ ومتغيرات واتساع لمساحة الرقعات الساخنة، جاء ما ينسف هذهِ الفكرة وكان آخرها ما نقلته وسائل إعلام أميركية عن مصدرٍ في وزارة الخارجية أكد أن واشنطن لم تعد معنية بالبقاء في سورية وهي تبحث فعلياً التوقيت المناسب لتحقيقِ هذا الانسحاب.
مما لا شكَّ فيه بأن هذا الكلام يحمل الكثير من الأهمية تحديداً وأنه مصحوب بطلب أميركي من الميليشيات التابعة لها شرق نهر الفرات بالبحث عن آلية تعاون مع الدولة السورية، لكنهُ بالوقت ذاته قد يبدو سلاحاً بحدَّين إن لم نحسن التعاطي معه تحديداً لجهة عدم الأخذ بالمعنى الحرفي للتصريح ومآلاتهِ بل الإحاطة قبلاً بكل ما يتعلق بالأسباب والدوافع والمتغيرات لكي نتمكن من الوصول إلى النتيجة الأهم المتمثلة بالسؤال التالي: هل هو مجرد تصريح أم فعلياً هو في سياق السياسة الأميركية الجديدة؟
لكي نجيب عن هذا السؤال لابد من تحليل المعطيات التالية:
أولاً: الصمت الرسمي السوري
مع كل تصريحٍ أو حدث جيوسياسي مهم في المنطقة دائماً ما تتجه الأنظار نحو الموقف الرسمي السوري، لكننا دائماً ما نُعيد ونكرِّر بأن قراءة الصمت السوري هو أصعب بكثير من قراءة أو تحليل التصريحات والمواقف الرسمية السورية، لأن قراءة الصمت تتطلب أولاً وأخيراً فهم العقلية التي تحكم ردات فعل من اختار الصمت كموقف تحديداً أن الصمت لعبة لا يتقنها إلا من يتعاطى بواقعيةِ سياسة النفس الطويل أو كما يسميها «أعداؤه» سياسة اللعب على الوقت، لا بعواطف الإنجازات المؤقتة.
بالسياق ذاته فإن البيان الذي يعبر عن الموقف الرسمي لهذه الدولة أو تلك من حدثٍ ما يكون رداً على بيانات رسمية وليس على كلامٍ منسوب إلى مسؤول في وزارة الخارجية؟ هل يريد البعض أن يرد الجانب السوري عبرَ الصحف بكلام منسوب لمسؤول في الخارجية السورية عن ترحيبٍ سوري بالمواقف الأميركية، أهكذا تكون السياسة؟
بالتأكيد لا، تحديداً إن من يتساءلون عن الموقف الرسمي السوري وهم في الغالب من يتهم القيادة السورية عن حسن نية أو غباء بأنها لا تحاول استغلال أي انفتاح أميركي والتمسك بشعارات لا معنى لها، فيما تجاهلوا مئات التصريحات الرسمية السورية التي لا تتعاطى مع الولايات المتحدة كعدو، سورية لم تحمل يوماً شعار «الموت لأميركا» لأننا كسوريين لا نطلب الموتَ لأحد، لم نخرج لاحتلال أرض أحد ولم نوظف وسائل إعلامنا لقلب نظام الحكم عندَ أحد، حتى مع سياسة العقوبات الأميركية المفروضة على سورية منذُ عقودٍ من الزمن كانت العلاقة مع الولايات المتحدة متأرجحة وباردة، لكنها موجودة ووصلت إلى حد اللقاء بين الرؤساء، كان آخرها اللقاء الشهير بين الرئيس الراحل حافظ الأسد والرئيس الأسبق بيل كلينتون في جنيف صيف العام 2000.
إن الموقف الرسمي السوري لم يتغير حتى جاءت اللحظة التي قامت فيها الولايات المتحدة باحتلال مناطق شاسعة من الأراضي السورية بذرائع مختلفة، هنا لا يمكنك تجاهل فكرة أن القوات المحتلة هي عدو بمعزلٍ عن تسميتها أو أسباب وجودها من دون طلب من الحكومة الشرعية، على هذا الأساس فإن فهم الصمت السوري يجب أن ينطلق من عدة بديهيات أهمها والذي لربما قد يختصر الكثير:
سورية جاهزة للتعاون مع الولايات المتحدة في أي ملف من دون استثناء، جاهزة للمساعدة حتى في ملف الأميركيين مجهولي المصير بما يضمن احترام السيادة السورية، لكنها بالوقت ذاته تنتظر من الطرف الآخر أفعالاً على الأرض لا أقوالاً وتسريبات قد يتم نفيها ببيانٍ بسيط عند انتفاءِ الحاجة إليها! لم تعتد السياسة السورية أبداً على التعاطي مع الوهم حتى عندما كان الإرهابيون على بعدِ مئات الأمتار من قلب العاصمة دمشق.
ثانياً: الانتخابات الأميركية
من المؤسف بمكان أن هذهِ العبارة باتت الشمَّاعة التي يعلِّق عليها البعض كل المواقف الأميركية المستجدة في أي ملفٍّ كان، حتى الأحداث التي تضرب ولاية تكساس هناك من سيعزيها إلى الحدث الانتخابي لدرجةٍ بات فيها حتى الأميركيون أنفسهم يسخرونَ من وجهة النظر تلك، لقد قلنا هذا الكلام في أكثر من مناسبة بأنه مازال من المبكر ربطَ كل شيء بالانتخابات الأميركية، كما أن إدارة الرئيس الحالي جو بايدن ليست أول من تعاطى مع فكرة الخروج من سورية حيث كان الرئيس السابق دونالد ترامب أول من قرر ذلك في العام 2019 رافعاً شعار «أميركا أولاً»، قبل أن يحظى بمعارضةٍ شديدة من قبل البنتاغون الذي طالب بإعادة النظر في القرار يومها وصولاً لتركِ بضع وحدات عسكرية بوجودٍ رمزي، يومها هناك من ربطَ ضغط البنتاغون هذا بضغوطاتٍ مارستها بعض الدول العربية للحفاظ على الحد الأدنى من القوات الأميركية تحديداً من جهةِ الحدود الشرقية مع العراق بهدف قطع شريان التواصل مع إيران أو كما يسميه البعض ضرب الطموحات الإيرانية في سورية، اليوم تبدو الكثير من الظروف قد تبدلت، من الانفتاح العربي على سورية والذي وصل حد إعادة افتتاح السفارة السورية في الرياض وسفارة المملكة العربية السعودية في سورية قريباً، هذا الانفتاح الذي كان مطلباً لكل مؤمنٍ بعروبته لأن لا عمق لسورية إلا عمقها العربي، وهذا أسقطَ معه الكثير من الأكاذيب التي كانت تُعيق أي اقتراحٍ لحلول في سورية من بينها أو لربما أهمها، سقوطِ فكرة أن سورية هي تابع لإيران، التي كان يروج لها البعض بما في ذلك فكرة الترويج لما يسمونه «الهلال الشيعي»، لتُثبت سورية بأنها آخر دولة في هذا العالم قد تتعاطى بتحالفاتٍ على مبدأ مذهبي دنيء، بالسياق ذاته فإن عودة العلاقات بين إيران والكثير من الدول العربية الفاعلة ساهمَ إلى حدٍّ بعيد بخلقِ مناخات جديدة من التعاون ضمن احترام الدول لبعضها بعضاً، ووأد أي فكرة صدام في منطقة الخليج العربي باستعادة سيناريو حرب استنزاف جديدة بين العراق وإيران لكن على مستوى الخليج ككل، حتى التعاون بين الولايات المتحدة وإيران نفسها بدأ يخرج منه الكثير إلى العلن، ومع اندلاع أحداث طوفان الأقصى كان هناك الكثير من الرسائل المتبادلة بين الطرفين تؤكد عدم نية أحدهما بضرب مصالح الآخر، وصولاً إلى التقارير التي تحدثت أمس عن تحذير أميركي لإيران من وقوع هجمات إرهابية على أراضيها، وهو ما حدث بالفعل مطلع كانون الثاني الجاري وأدى إلى مقتل العشرات من الإيرانيين، بمعنى آخر فإن الظروف الإقليمية تبدو مهيأة لإحداث توافق ما تلعب فيه الدول العربية الفاعلة دوراً محورياً ينهي سلسلة اجتماعات آستانا التي فيما يبدو لا طائل منها، لكن ماذا عن المتضررين؟
يُحسب للقيادة السورية بأنها رغم ما تعانيه من صعوبات إلا أنها في القرار السيادي لم تجامل فيهِ الصديق أو الحليف حتى تجامل من هم في الطرف الآخر، هذا يعني بأن أصدقاء سورية ليسوا متضررين من أي تسوية قادمة لأنهم أساساً لا يملكون «موانة» على القرارات السيادية، وتسوية كهذه إن تمت سيتضرر منها طرفان:
الطرف الأول هو النظام التركي الذي كان ولايزال يرى بسورية فردوساً مفقوداً، لكنه حكماً لا يملك القدرة على عرقلة الحل إلى مالا نهاية.
الطرف الثاني هو المعارض الذي لايزال يبني أحلام الانفصال أو بناء إمارته الإسلامية، كلاهما سيدرك بأن الدولة هي البيت الذي يحمي الجميع ولو كان هذا الإدراك متأخراً فماذا ينتظرنا؟
لم تكن التصريحات أو التسريبات الأميركية عبثية حتى الآن على أقل تقدير، بالتأكيد هناك تفاهمات تُطبخ بهدوء، لكن متى ستنضج تسوية كهذه؟ لا نعلم، وما نعلمه أن عدد القادرين على التعطيل تضاءل إلى حدوده الدنيا.. لننتظر!
كاتب سوري مقيم في باريس