في تقريرين منفصلين، متقاطعين بالمعلومات بدرجة لافتة، قدمت مجلة «فورين بوليسي» وموقع «المونيتور» الأميركيين خلال منتصف الأسبوع المنصرم رواية قال كلا الاثنين إنها تستند في معطياتها إلى مصادر بالبيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع في واشنطن، وفيها، أي في تلك الرواية، أن الأخيرة «لم تعد مهتمة بالبقاء في سورية»، وأن «إدارة الرئيس جو بايدن ترى أن الوجود الأميركي في سورية لم يعد ضروريا»، وتضيف الرواية: إن «مناقشات مكثفة تجري الآن لبحث توقيت وكيفية سحب القوات الأميركية من سورية»، بل إن موقع «المونيتور» كان قد أضاف إلى رواية «فورين بوليسي» بأن مصادره تؤكد أن ذلك الانسحاب بات «وشيكاً جداً» بعد أن جرى نقاشه في اجتماع لـ«لمجلس الأمن القومي» الأميركي كان قد جرى بالبيت الأبيض في الـ18 من كانون ثاني الجاري.
قد يكون كل ما ورد في تقريري «فورين بوليسي» و«المونيتور» صحيحاً، ولربما كان ما جاء في التحليل المرفق بهما الكثير من الصحة أيضاً عندما ذهب الاثنان للقول: إن أثمان البقاء الأميركي في سورية والعراق باتت باهظة بعد الـ7 من تشرين أول المنصرم، حيث شهدت الفترة الفاصلة ما بين هذا التاريخ الأخير وبين اليوم تسجيل 130 استهدافاً للقواعد الأميركية غير الشرعية في البلدين، لكن كلا التحليلين لم يذكر، أو لربما تعمد ألا يذكر، أن طرق موضوع الانسحاب في اجتماع «مجلس الأمن القومي» الأميركي، الذي قال «المونيتور» أنه جرى يوم الـ18 من كانون الجاري، كان قد جاء بعد 24 ساعة فقط على تصديق البرلمان التركي على معاهدة انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي «الناتو»، وفقاً للتاريخ الذي ذكره الموقع آنف الذكر، وتلك إشارة تتعدى أن تكون مصادفة في التوقيت لتعطي دليلاً على أن الفعلين مترابطان بدرجة وثيقة، وإذا ما صح هذا التوصيف الأخير فإنه يصبح من المؤكد أن واشنطن وأنقرة توصلتا إلى تفاهمات وازنة تتعلق بالتواجد الأميركي بالعراق وسورية في غضون الفترة الأخيرة، وما يدعم هذا الاحتمال الأخير مؤشران اثنان، أولاهما مطالبة الحكومة العراقية على لسان رئيسها محمد شياع السوداني بتشكيل لجان مشتركة، أميركية- عراقية لبحث ملف «إنهاء الوجود العسكري الأميركي على الأراضي العراقية» قبيل أن يصف الأمر بأنه «قضية سيادية لا يمكن التنازل عنها»، وثانيهما هو سياسة «غض النظر» التي مارستها واشنطن تجاه الهجمات التركية الأخيرة ضد مواقع «قسد» وهي طالت بنى ومنشآت ذات علاقة بإحكام هذه الأخيرة لقبضتها في المناطق التي تسيطر عليها، وعلى الرغم من طول المدة وضراوة الهجمات إلا أن واشنطن ظلت صامتة ما يشير بوضوح إلى أن الصمت كان دلالة على أن ثمة شيئاً يدور عبر أسلاك الاتصال.
يبدو لافتاً هنا التناقض الحاصل ما بين الموقف الأميركي الذي نقله موقع «المونيتور» لجهة القول: إن «الإدارة الأميركية أبلغت «قسد» بما يدور في أروقة البيت الأبيض»، وأن الأولى طرحت على هذه الأخيرة «الدخول في شراكة مع الحكومة السورية في الحملة ضد تنظيم داعش»، وبين الموقف الذي أعلنته «قسد» على العديد من وسائل إعلامها ونفت من خلاله «العلم بأي نية أميركية للانسحاب من سورية»، وتلك فرضية، إذا ما صحت معلوماتها، فإنها تشير إلى أن الإدارة الأميركية أرادت أن تكون القناة التي تعلم بها «قسد» بما يجري النقاش حوله «إعلامية» ولذاك مدلول مهم يشير، بل ويريد التأكيد، على أمرين اثنين أولاهما أن لا «شراكة» لأحد في القرار الأميركي الذي تفرضه اعتبارات ومعطيات ومصالح معينة، وثانيهما أن هذه الأخيرة عندما «تنضج» مجتمعة فإن واشنطن تصبح في حل من كل «التزاماتها» السابقة تماماً كما حصل في أفغانستان صيف العام 2021، حتى لا يعود مهماً لديها ترتيب أمور «حلفائها»، أو تابعيها بشكل أدق، الذين استندت إليهم إبان فترة وجودها في المناطق التي ستنسحب منها.
المهم في الأمر الآن هو كيفية تعاطي «قسد» مع معطيات كهذه التي وإن لم تصل راهناً إلى نهاياتها التي نعني بها هنا تنفيذ انسحاب أميركي تام، لكنها تشير إلى أن الماء في «البركة» ليس راكداً، وأن «وراء الأكمة ما وراءها»، وأن هذا الانسحاب حاصل اليوم أو غداً، وفي حسابات «قسد»، يجب أن يكون الفرق واضحاً بين أن تقوم بمد الجسور مع دمشق الآن بما يفضي إلى تفاهمات تحت سقف السيادة الوطنية، وبين أن يحدث الفعل بعد انسحاب أميركي مفترض وهو حاصل لا محالة، والأمر عينه ينطبق أيضاً على فصائل أخرى تعمل تحت قيادة «قاعدة التنف» مثل «جيش سورية الحرة» المنتشر في البادية السورية في محيط هذه الأخيرة، فالإعلان الأميركي عن أفكار يجري تداولها راهناً في دوائر صنع القرار بواشنطن يجب أن يكون كفيلاً بمراجعة الحسابات لدى هؤلاء، لأن الفعل يجب أن يضع «الملتحقين» بهذه الأخيرة أمام أسئلة وجودية في ظل اعتمادهم التام على الأولى، أي على واشنطن، في التمويل والعتاد والغطاء والدعم، وما خلا ذلك فإن مناطق شرق الفرات ستشهد مناخات جديدة من العنف وقد تتعرض لغزو تركي جديد في حال ظلت «الرؤوس الحامية» على حماوتها التي كان الوجود الأميركي السبب المباشر في وصولها لتلك الدرجة.
كاتب سوري