ندوات وورشات عمل أطلقتها اتحادات ونقابات مهنية سورية بحثاً عن مقاربات جوهرها دور الدولة في مختلف المجالات، والنهوض بالقطاع الزراعي وإصلاح الأجور، ومراجعة نقدية لفكر حزب البعث وتطبيقه، وقد بدا النشاط مفاجئاً بعد أكثر من عقد من السبات انشغلت خلاله مؤسسات الدولة والأحزاب والمجتمع السوري بالحالة الأمنية والمعيشية خلال الحرب، ويرتبط ذلك النشاط كما يبدو، بحملة منظمة أطلقها حزب البعث توازياً مع التحضير لانتخابات واسعة لمؤتمر للجنة المركزية التي تنتخب بدورها قيادة مركزية للحزب بدلاً من القيادة الحالية التي تواصل أعمالها منذ 2017.
وإن كان «مؤتمر البعث» المتوقع الربيع المقبل، داخلياً من حيث الشكل إذا ما تم النظر للعملية من منظور حزبي بحت، لكنه في جوهره يمسّ سياسات الدولة بعناوينها العريضة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً انطلاقاً من دور «البعث» المحوري في سورية كـ«قائد للدولة والمجتمع» بحسب نصوص دستورية استمرت خمسين عاماً وتم إلغاؤها في الدستور الحالي الذي أقر عام 2012.
إن سيطرة الحزب على السلطتين التشريعية والتنفيذية والعمل النقابي والفكري وكل تفاصيل العملية الاقتصادية حتى اليوم، عبء هائل دون شك يجعل من أي إصلاح للدولة ينطلق من بوابة إصلاح «البعث» ذاته، ما يعني أن العملية لا تخص منتسبي هذا الحزب وحدهم، بقدر ما هي محل اهتمام مختلف السوريين، في إطار البحث عن إصلاح شامل باتت تحتاجه مؤسسات الدولة، ويسهم بإخراج البلاد من حالة استعصاء سياسي وجمود فكري والبحث بجرأة عن حلول لما تواجهه منذ عام 2011، فـ«البعث» بما يمثله في سورية مُطالب اليوم، بعيداً عن السياسات والتكتيكات الأمنية، بالبحث جدياً في سياسات وإستراتيجيات تتصدى لما يهدد مستقبل البلاد من شرق الفرات، حيث فرضت «الإدارة الذاتية» الكردية سياسة أمر واقع على مساحة تعادل أكثر من ربع مساحة البلاد، وشمالاً مع تكريس أنقرة نفوذاً طويل الأجل مع سياسية تتريك وتغيير ديموغرافي معلن، وشمال غرب مع هيمنة تنظيم القاعدة ممثلاً بـ«جبهة النصرة» على محافظة إدلب، وبين هذه وتلك احتلال أميركي عبر مئات الجنود يتولون مهمة حماية «الإدارة الذاتية» شرق الفرات في جانب، ويقطعون التواصل الجغرافي بين سورية والعراق في قاعدة التنف من جانب آخر.
تحديات مصيرية لم تعد خافية على السوريين بمختلف انتماءاتهم السياسية والإثنية وتوزعهم الجغرافي، ولم تواجهها الدولة السورية منذ الاستقلال عام 1946، عدا عن أن مواجهتها والبحث في معالجات واقعية لها، تتجاوز طبيعة العمل الحزبي الضيق باتجاه ضرورة اجتراح حلول وطنية شاملة بمشاركة القوى السياسية والحزبية والمجتمعية للخروج من واقع صعب بأبسط توصيفاته.
أكثر من ذلك ثمة قناعات متزايدة بأن الحديث عن أي انفراجات اقتصادية ومعيشية جدية باتت صعبة من دون معالجة جريئة لتلك الملفات السياسية والأمنية التي تعوق إنعاش القطاعات المنتجة وبالأخص الزراعة والصناعات الصغيرة والحرفية، مصدر الدخل لمئات آلاف الأسر وعامل الأمان المجتمعي لأغلبية السوريين خلال عقود مضت، ومن المأمول إذا ما تمت مقاربة تلك العناوين، وضع أرضية تمهد لعودة كثير من السوريين من دول الجوار على الأقل، أساسها تحسين قدرة الدولة على استيعابهم، وإطلاق حل سياسي شامل يفترض مشاركة إقليمية ودولية دعماً لدمشق بهذا المسعى.
الجانب المعيشي يشكل اليوم الضاغط الأهم على السوريين في ظل معدلات فقر تتجاوز التسعين بالمئة بحسب تقديرات أممية، وتراجع حاد في قيمة الليرة جعل سعر صرف الدولار نحو 12300 ليرة بالسعر الرسمي، وأكثر بنحو ألفين وخمسمئة ليرة بسعر السوق الموازي، وهذه معطيات تكملها معدلات رواتب لا تتجاوز 250 ألف ليرة شهرياً للموظفين في مؤسسات الدولة والقطاع العام عموما، ما دفع رئيس اتحاد العمال السوريين جمال القادري لوصفها خلال ورشة عمل عقدت قبل أيام بـ«الإعانة» وليست بالراتب. وفي تفاصيل ذلك المشهد القاسي أزمات حادة في توافر مشتقات الطاقة والكهرباء وتراجع حاد في الخدمات الصحية وفرض دفع مستلزمات العمليات الجراحية في المشافي العامة، وارتفاعات حادة في أسعار السلع تبعاً لرفع متسارع للدعم عن سلع وخدمات أساسية شكلت جزءاً من برامج «البعث» لحماية الشرائح الفقيرة في البلاد.
من العبث فصل تلك التفاصيل المعيشية عن العناوين السياسية العريضة ذلك أن جزءاً كبيراً من مسببات التدهور الاقتصادي يرتبط بنتائج الحرب والحصار وخروج ثروات البلاد عن السيطرة، وظهور شريحة من الفاسدين تعوق بقوة أي إصلاح يهدد ما حققته خلال سنوات الحرب، وهذا بات حديث السوريين على مختلف انتماءاتهم بمن فيهم البعثيون.
لقد حقق «البعث» وهو في صفوف المعارضة نجاحات هائلة في خمسينيات القرن الماضي، ونجح وهو يمتلك 22 عضواً فقط في انتخابات البرلمان السوري 1954 في فرض سياسات دعم للفلاحين والعمال والإصلاح الاجتماعي، وجذب عبر تلك السياسات شرائح عريضة وسعت من دوره تالياً وحوّلته قوة رئيسية في الحياة السياسية للبلاد.
استعادة ذلك الألق تفرض اليوم، بعد كل الحروب الداخلية والخارجية، حسم هوية الحزب الاقتصادية والاجتماعية، وإطلاق تشاركية فاعلة مع الأحزاب والقوى السياسية السورية في بعض عنوانها تفعيل دور مجلس الشعب في المراقبة والمحاسبة، وتنشيط الحياة السياسية والمجتمع المدني، وضرب الفساد على مختلف مستوياته وليس في مستواه البسيط فقط، وتوسيع الجبهة الوطنية التي تضم القوى المتحالفة مع «البعث» منذ عام 1971، بضم بعض الأحزاب المرخصة وفق قانون الأحزاب 2012.
صحفي سوري