الذاكرة مع الذكرى السابعة والسبعين لميلاد الإذاعة السورية … نور الشريف قدّم برامج على الهواء من إذاعة دمشق لأول مرة
| د. منير الجبّان
تشعل إذاعة دمشق صباح الثالث من شباط شمعتها السابعة والسبعين، ولو سألنا هل وثّقت الإذاعة تاريخها في البرامج التي قدمتها وأثبتت أولويتها في اختراق حواجز المستحيلات بإمكانات بسيطة وأجور زهيدة؟ وكيف سبقت إذاعتنا كل الإذاعات العربية في أشكال البرامج ومضامينها؟ فعلى سبيل المثال برنامج استوديو ٢٦ كان واحداً منها، وجاء بعده البث المباشر.
قدمت إذاعة دمشق لوناً جديداً من البرامج لم تعتد الأذن السورية والعربية على سماعه، وأذكر أنني كنت في زيارة إلى دبي حين سمع السيد رياض الشعيبي الذي صار له شأن كبير في الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني في الإمارات، من أحد محرري الأخبار في إذاعة دبي التي كان الشعيبي يديرها، وكان هذا المحرر، محرر الأخبار فيها، قبل ذلك كان محرراً في إذاعة دمشق في زمن استوديو ٢٦، أخبر هذا المحرر الشعيبي بأنني واحد من المشاركين في البرنامج الإذاعي الشهير استوديو ٢٦، وقال له إن البرنامج «قايم الدنيا وحاططها في سورية والبلدان المجاورة» فعرض عليَّ فوراً أن أقدم برنامجاً يشبه استوديو ٢٦ في إذاعة دبي، وألح علي كثيراً كما أغراني بأنني لو قبلت فسأقدم أيضاً برنامجاً تلفزيونياً وأظهر على الشاشة ولكنني اعتذرت، فطلب مني أن أضع لهم على السريع مخططاً لبرنامج يشبه استوديو ٢٦ وفعلت.
الإذاعة والأعياد
أذكر وخلال أحد أعياد الأضحى أنني قدمت برنامجاً باسم إذاعة حرّة، كان هذا البرنامج خروجاً عن تقاليد إذاعة دمشق في الإعداد والتقديم، وتوجّس مدير الإذاعة وقتها سامي جانو ومدير البرامج وجيه السراج من إذاعته، لكنهما غامرا فأذاعاه وكان سبقاً في شكل البرامج إعداداً وتقديماً، فيه نشرة أخبار ساخرة قرأها الفنان رفيق السبيعي بالتناوب مع الفنان زياد مولوي في وقت كان مجرد ذكر نشرة أخبار (والاسم وحده يثير الرعب في المبنى) برامج كثيرة قدمتها على الهواء وانفردت بها إذاعة دمشق، منها حصص دراسية، إذ يحضر مدرسون متخصصون يحلون مسائل الرياضيات والفيزياء والكيمياء على الهواء مباشرة لطلاب الثانوية العامة، ويتلقون الأسئلة منهم على الهاتف ويحلونها لهم من وراء الميكرفون، وأذكر أن وزير التربية في حينه أوفد معاونه ليتوسط لدى مدير الإذاعة وقتها السفير صفوان غانم رغبة الوزارة في إلغاء البرنامج، لأنه بمنزلة دروس خصوصية على الهواء، والوزارة لا تشجع الدروس الخصوصية، ولم ينجح في مساعيه، إذ رفض المدير إيقاف البرنامج.
الإذاعة وثقافة البلدان والتجارب
أذكر سفراء سورية في العالم وهم يحكون خلف مايكروفون إذاعة دمشق قصصاً عن البلدان التي خدموا فيها، وسفراء عرب في سورية يحكون للمستمع حكايا عن بلدانهم، وكان أول برنامج عربي من نوعه..
الشام والهواء والليل
وأذكر برامج الهواء عند منتصف الليل في رمضان، إذاعة دمشق تنافس المحطات العربية في استضافة نجوم الفن والسينما والتلفزيون، إذ يدخل هواء إذاعة دمشق وعلى التلفون إلى بيوت مشاهير نجوم ونجمات الفن في مصر، ومنهم الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي أعرب على الهواء عن اشتياقه لسورية فتلقى في اليوم التالي من القصر الجمهوري دعوة رسمية لزيارتها.. إلى حديث هامس مع النجمة سهير المرشدي التي تلقت خبر عزل زوجها النجم كرم مطاوع عن منصبه كمدير للمسرح القومي في مصر، وكنا معاً على الهواء ندردش وننتظر قدومه إلى المنزل، وألحّت بأن زوجها لم يعرف خبر العزل بعد، وطلبت مني أن أخفي ذلك عنه الخبر، وحين دخل إلى المنزل وأخبرته زوجته أنني أنتظره في مقابلة على الهواء، تناول من يدها الهاتف وتحدث فيها عن مشاريعه المستقبلية للمسرح لعشر سنوات قادمة وزوجته خائفة أن أبلغه خبر عزله خشية أن يصدمه الخبر.
أخبارنا بخير
وأصل إلى أصالة نصري وكانت مع زوجها وقتها في زيارة إلى منزل الموسيقار سيد مكاوي، فقاطعني السيد مكاوي قائلاً: بتعرف مين عندي؟ قلت له مَنْ قال؟ هي حتقلك فجاء صوت أصالة ولم تعرف أننا على الهواء، قالت لي أرجوك أرجوك بعد البرنامج افتح تلفون لأمي، وقل لها أنا بخير فأخباري مقطوعة عنها ومشغول بالها عليّ كثيراً، خبّرها أنا بخير، قلت لها أمك سمعتك مباشرة وأنت على هواء إذاعة دمشق، فنادت بأعلى صوتها يا أمي أنا منيحة كتير، اطّمني ما ينشغل بالك.. وفي الذاكرة أكثر من برنامج مشترك على الهواء مع إذاعة مونتي كارلو وحكمت وهبي، ومسابقات وجوائز من أسرة النعسان الشهيرة بالحرير والموازييك، وكان سمير النعسان يهدي الفائز من المتسابقين إذا عرف سؤالاً عن سورية حريراً وصناديق تقليدية وهدايا تراثية ويتم شحنها له في البريد.
حوارات مشتركة للعمر
ويحضر في الذاكرة حوار مشترك على الهواء مع السفير اللواء يوسف شكور في باريس على هواء إذاعتي دمشق وإذاعة الشرق في باريس، وشارك فيه من هناك الزميل نضال زغبور وازدحمت الأسئلة التي تصل بأصوات أصحابها إلى سعادة السفير من مستمعين في فرنسا أجاب عنها بمنتهى الصراحة.
تفوق إذاعتنا في لعبة الهواء
برامج الهواء هي اللعبة التي تفوقت فيها إذاعة دمشق على كل الإذاعات العربية وأبدعت.. في استوديو ٢٦ انتقلنا صباح الجمعة، مرة أخرى إلى خارج حرم المسجد الأموي، وتجمع حولنا الزوار ونحن نبث على الهواء يلوحون لنا بأيديهم، ومرة في فندق عقل في بلودان، ومرات في أماكن أخرى، وأنا أقرأ على الهواء في استوديو ٢٦ مانشيتات وبعض زوايا ومقالات الصحف الصباحية الصادرة في دمشق قبل أن تصل إلى أيدي القراء وحبرها لم يجف..
إبداعات خاصة
وأذكر أننا مع أحمد نصري المبهر الشغّيل لدرجة الإبهار أمهر الفنيين في تاريخ الإذاعة، وفي غرفته الصغيرة في المراقبة العامة صنّعنا يدوياً أشكالاً جديدة من أجهزة التلفون تتصل دفعة واحدة مع مجموعة أرقام من الاستوديو إلى مشاركين في البرنامج، وأصبح أحد أشكال هذه التلفونات شائعاً فيما بعد ولم تكن قد دخلت الإذاعة، ووجدنا أنها تلبي احتياجات برامج الهواء التي كنا نقدمها، وبالمناسبة في ذلك الوقت لم يستخدمها أحد غيري ولم يكن مثلها يتوافر في الأسواق أيضاً، وكانت القاسم المشترك في برامج الهواء تجمع عدداً من الضيوف والمستمعين في وقت واحد، وأذكر أن بعثة مذيعين في صوت العرب وكانوا في أحد الرمضانات يقدمون برنامجاً لهم من دمشق، أذهلهم ما نقدم من برامج على الهواء، واعترفوا أننا كنا سبّاقين في إذاعتها، وتتطلب الجرأة أيضاً في تقديمها..
مع الأدب وصوت العرب
وحمدي الكنيسي الإذاعي المصري الشهير اقترح أن نشارك صوت العرب في برنامج واحد يبث على الهواء وفعلناها أكثر من مرة، وكان ضيوفنا من دمشق على هواء إذاعة دمشق وصوت العرب في وقت واحد، ومن أوائل من استضفناهم الشاعر الكبير عمر أبو ريشة والأديب الكبير عبد السلام العجيلي والأديبة الكبيرة كوليت الخوري اجتمعوا في برنامج واحد..
نور الشريف شريك الهواء
برنامج رمضاني يومي قدمته من استوديو الموسيقا بمصاحبة فرقة الإذاعة الموسيقية بقيادة المايسترو سليم سروة، وصادف أن كان النجم نور الشريف مقيماً في دمشق خلال الشهر يتابع عملاً سينمائياً يقوم ببطولته، ودعوته أن يشاركني في تقديم البرنامج فوافق فوراً وبلا تردد وكنت أصحبه كل ليلة من فندقه إلى استوديو الإذاعة، وأضفى على البرنامج سبقاً لم تحظَ بمثله إذاعة عربية وفي شكل التقديم لم تألفها إذاعة دمشق من قبل، ومن خلال النافذة البللورية التي يطل منها الاستوديو على غرفة الكونترول كنت أشاهد مدير الإذاعة ومدير برامجها بين حشد من الجموع التي تملأ غرفة الكونترول يتابعون بث البرنامج، فقد كان وجود النجم السينمائي نور الشريف مذيعاً مشاركاً في البرنامج وهو ما لم يفعله من قبل حدثاً إذاعياً فريداً، وكنت أستضيف كل حلقة مجموعة كبيرة من الضيوف، وأتقصّد مشاهير لم نعد وقتها نسمع عنهم شيئاً، واحد منهم سامي أبو نادر الذي اشتهر في إذاعة محطة الشرق الأدنى إذاعة لندن حالياً مشاركة، وعلى فكرة استضافتي لنور الشريف كانت بمبادرة خاصة مني ولم يعرف عنها مدير الإذاعة سامي جانو إلا عندما قدمنا الحلقة الأولى، قلت لمدير الإذاعة فقط انتظر أخبئ لك مفاجأة ستدهشك.
ولرمضان سهراته
وفي سهرة رمضانية عند منتصف الليل أقامت النجمة نبيلة عبيد حفلاً على شرف نجوم مصر تمنيت على الدكتور رفيق الصبان وكان مدعواً للحفل أن يقف على باب الصالة التي ستقام فيها السهرة، وكلما دخل فنان أو فنانة أن يعطيها الهاتف، وقام بذلك على أروع وجه، فكان يسلم السماعة للداخل إلى الصالة من نجوم ونجمات، وذلك بعد أن أعرف من الدكتور الصبان من الداخل ويفاجأ المتحدث بصوتي أقول له أهلاً بك أنت على هواء إذاعة دمشق، وندردش قليلاً إلى أن أنتقل إلى الضيف الذي يليه، وأذكر أنني ليلتها تحدثت مع دزينة من النجوم تحدثوا هم عنها كثيراً بعدها.. قصص كثيرة لزملاء آخرين هم يحكونها تؤكد صعود الإذاعة إلى مراتب عالية في الاستماع تفوق التلفزيون، ولكن أليس حراماً ألا يوثق كل هذا في سجل للأرشيف يضم أشرطته يُرجع إليها؟ أم إنها تُمسح كما نَمسح بالممسحة سبورة صف المدرسة ما خطه بالطبشور حَوّار المعلّم؟